قبل تنفيذ الإضراب العام تهاطلت التحليلات والتحذيرات من «خميس أسود». ونبش الكثير من المحللين في الذاكرة الشعبية وفي تاريخ البلاد لوضع مقارنات مع ما شهدته البلاد من فوضى ومواجهات في إضراب 26 جانفي 1978.. لكن خميس جانفي 2019 كان خميسا أبيض والاضراب العام مرّ بسلام ليشكل درسا تونسيا جديدا للعالم.. درس في الديمقراطية يدلّل على مدى وعي وتحضر هذا الشعب.. وكذلك على عمق الفهم لمعاني الاضراب ولغاياته كوسيلة للتعبير عن المواقف والدفاع عن حقوق وأداة لاسماع صوت.. وليس كمطية لبث العنف والفوضى وتخريب المكاسب وتهديد أمن البلاد واستقرارها. وهذه اللوحة الجميلة التي رسمها شغالونا يوم أمس في مختلف جهات الجمهورية من خلال تحركاتهم وتجمعاتهم السلمية والمتحضرة تحسب أيضا لعدة أطراف أسهمت بشكل أو بآخر في تأمين يوم الاضراب وجعله يمرّ بسلام. فقيادة الاتحاد وقيادات الاتحادات الجهوية وكل الهياكل تجنّدت لتأطير التحركات النقابية ودفعت باتجاه تكريس الإضراب كأداة تعبير حر في نظام ديمقراطي وليس كمطية للمواجهات والانفلاتات بما يتبعها من تخريب لمكاسب العباد والبلاد. وقد تجمّع آلاف النقابيين في عديد الساحات وهتفوا وأسمعوا أصواتهم وعبّروا عن مواقفهم ثم تفرّقوا بهدوء. الحكومة من جهتها سجلت مواقف تحسب لها. حيث تحلّت بأعلى درجات الهدوء وضبط النفس ولم تعمل على إجهاض التحركات النقابية بما كان سوف يفضي إلى تشنجات ومواجهات قد تنزلق معها الأمور إلى ما لا يحمد عقباه. كما تم توجيه قوات الأمن باتجاه العمل على تأمين كل الفعاليات التي رافقت الإضراب إلى جانب العمل على سدّ الطريق أمام أصحاب النوايا الخبيثة والأجندات المشبوهة الذين كانوا يمنّون النفس بركوب الأحداث واستغلالها لبث سمومهم ولمَ لا القيام بأعمال إرهابية أو افتعال مصادمات تزرع أجواء من الفوضى.. وهي مهمّة نفذها الأمنيون بمهنية كبيرة وبخبرة واقتدار يحسبان لرجال أمننا الذين نجحوا في تأمين تحركات أمواج بشرية في بعض الشوارع والساحات.. والحيلولة دون حدوث انحرافات لم تنج منها العديد من المدن الفرنسية مثلا أثناء احتجاجات حركة «السترات الصفراء» بما شهدته من مواجهات وسقوط ضحايا وإلحاق أضرار كبيرة بالمحلات التجارية وبالبنية التحتية وحتى بقوس النصر في قلب باريس. إن ما عاشته البلاد يوم أمس هو امتحان بكل المعاني.. امتحان اجتازته كل الأطراف بنجاح وسوف يفضي رغم فداحة الخسائر المادية لإضراب عام ليوم كامل إلى خلق أجواء ايجابية بعد تنفيس الاحتقان الذي صحب جولات المفاوضات وسبق الاضراب العام. أجواء يمكن الاستناد إليها والبناء عليها تأسيسا لمفاوضات جديدة تكون مثمرة هذه المرة بعد أن القى كل طرف بأوراقه وبدا واضحا للطرفين الحكومة والاتحاد بأنه لا غالب في صراع إرادات يفضي إلى تعطّل لغة الحوار واللجوء إلى الاضراب وبأن الكل مغلوب طالما أن تونس وشعبها من سيدفع الفاتورة. وبشيء من الحكمة والتعقل سوف يكون ممكنا الآن التوجه إلى مفاوضات تستند إلى فهم متبادل لظروف المالية العمومية ولحاجة الموظفين إلى ترميم قدرتهم الشرائية.. ذلك أن التمترس وراء المواقف القديمة والمستندة إلى ضغوط صندوق النقد الدولي وخطوطه الحمراء وتوجه المركزية النقابية لمزيد التصعيد لن يؤديا إلا إلى نشر أجواء من التوتر والتشنج في وقت يحتاج فيه العباد والبلاد إلى الهدوء.. وإلى التركيز على ما ينفع الناس في أجواء من الثقة التي تدعم الوحدة الوطنية وتقطع الطريق على كل الضغوط والتدخلات الخارجية مهما كان مأتاها وتمكّن من التركيز على العمل وخلق الثروة التي تعود بالنفع على الجميع.