1 شَاربٌ كثيفٌ أسودُ وبجانبه على اليمين شامةٌ سوداءُ على بياض ,ذلك ما تراه على غلاف ديوان الشّهيد شكري بلعيد وما الشّارب والشّامة إلا سِمتان تمتاز بهما ملامح الشهيد الذي ولئن عُرف مناضلا وطنيا بارزا فهو لم يُعرف شاعرًا بين الأدباء والشّعراء خاصة لكنّني عندما قرأت ديوانه - أشعار نقشتها الريح على أبواب تونس السبعة - تبيّن لي أنّ النصوص الشعرية الواردة ضمنه تمثّل شاعرا من الطّراز الرّفيع فهي تؤكّد أنّها صادرةٌ من لَدُن مُهجةٍ كثيفةِ الشّجون ومُعبِّرةٍ عن مُعاناةٍ صادقةِ التجربة وهي قصائد لُحمتُها وسَداها من نَسْج ثقافةٍ عميقة وشاملة جعلت تلك القصائدَ ذاتَ أبعاد وآفاق مشحونةٍ يشواهدَ ودَلالاتٍ ذاتية واِجتماعية وتاريخية ناهيكَ عن قيمتها الأدبية فنقرأ مثل :وجهك والريح في ما تقول الفصول وجهك خيل المرايا وامرأة عابرة وجهك الآن ما خلفته الخبول وما تركه الفاتحون على الأرض من دعوات ومن أمنيات وما شكلته الخفايا إذن سوف تمضي وحيدا إلى راية قاتلة ص 58أو كقوله أيضا :إنّي الحلاج هاكي الجبة فاللّه هنا يسكن فانوس الروح بأتعابي هاكي الجبة واحتضني مسكن أيامي وعذابي إني الحلاج صبحي أقبل يا امرأة من نيروز ومن شبق الذكرى من خلجات المطلق حبن نساء الأرض تخون فأنا المجنون يا امرأة يخرجها الله من ضلعي أتيهُ بها في ليل الغربة وأنادي يا امرأة الطير ، هنا حُلّي في جسدي المسجون وانفجري كالكلمات الحبلى بنشيجي المخزون - ص54 -2 كان من المنتظر أن نقرأ شِعرا معناه في ظاهر لفظه ويغلب فيه الخطاب الإديولوجي ويطفُو عليه المنحى السياسي الواضح على النواحي الفنية الجمالية فالشاعر مناضل عتيد وملتزم إلى النخاع بالقضايا الوطنية التونسية والقومية العربية في أبعادها الإنسانية ولكن ما نكاد نمضي في القراءة قصيدا تلو قصيد حتى ترتسم لدينا ملامح شاعر مُقتدر يمتلك ناصية القول الشعري فيرسل المعاني صُورا صورا فإذا المجازات والتضمينات والإلماحات تتوالى في إيقاعات متنوعة حتى تستحيل شعرا بديعا بما فيه من وهج الصدق والمعاناة وبما في أبعاده من انتصار لقيم المحبة والبذل فيبدو الكون الشعري لدى شكري بلعيد كونا قَدَّهُ من ملكوت شعريّ ذي بصمات خاصة قد اكتسبها ولا شك من اطلاعه على مدونات القدامى الشعرية ونتلمّس في بعض نصوصه صدى معاصريه من الشّعراء ولا عجب في ذلك فالإضافة لا تأتي من فراغ والإبداع لا يتسنّى إلا لمن كان مُطلعا على منجزات معاصريه. -3-من الخصائص الدالة على القيمة الفنية لقصائد شكري بلعيد ذلك الانصهار الذي تمكّن به من المزاوجة بين الشّجن الذاتي الحميمي وبين الهاجس الاجتماعي العام كقوله : حين أنهض في غيبتي أرسم عمري على راحتيك وأمضي قليلا لقطف الندى ثم أكتب سيرة عشقي على نهدك والعيون مدى وأشد إلي البلاد وأصرخ يا طير يا بحر يا نهر يا حجر الموج يا فتنة الفجر يا لون زهر المنافي ويا كبرياء الأنوثة - ص55 وهو حتى عندما يعبر عن مواقفه النضالية فإنه لا يصرّح بها بإفصاح صارخ كما تُكتب الخُطب والبيانات وإنما يجعلها في صياغة فنية وبأسلوب فيه الكثير من الإيحاء كقوله : رفاقي نشيدي الأخير جنون حبهم للبلاد التي وزعوا نارها بينهم ثم مالوا على جفنها.واستباحوا بريق عيونهم وردة لانبلاج الصباح نسجوا من الدم المتوحد أغنية الرفض والعاشقين ملء هذي الأرض نحن ملء هذا العمر نحن ملء كل الحب شحذنا الروح من أزل وقلنا وحدنا الباقون -ص147 يتبع رادس في 3 فيفري 2019