لم تغب الخلافات قط داخل النهضة ولم يغب الحديث معها عن صراع أجنحة. ما يميز الخلافات الحالية أنها من جهة توغلت في الجانب الفكري السياسي ومن أخرى أصبحت علنية فهل يصيب الحركة ما أصاب بقية الأحزاب من تفكك أو اندثار؟ تونس (الشروق) مستشار الرئيس يغرد خارج السرب، فلطفي زيتون أصدح هذه الأيام بما كان يعتبره النهضويون كفرا وتجنيا على الحركة وادعاء عليها بالباطل حينما طالب بمراجعة علاقة النهضة بالدين وحل القضايا الداخلية المتراكمة. زيتون هو من كان وراء الرسالة الشهيرة التي وجهها عدد من النهضويين إلى رئيس حركتهم حتى يراجع تقربه من رئيس الحكومة يوسف الشاهد على حساب التوافق «التاريخي» من رئيس الدولة الباجي قايد السبسي. وقبلها كان لبعض النهضويين نوع من التململ تجاه إغضاب حزب النداء بدعم حكومة الشاهد وقبلها ثارت ثائرة البعض من قرار الفصل بين الدعوي والسياسي وقبلها عارض البعض فكرة التوافق مع غريم تقدمي يجمع بين أعداء الحركة وقبلها عارض البعض التصويت على دستور لا يستجيب لأحلام النهضويين كلهم وتطلعاتهم وقبلها لم يستسغ البعض فكرة التصدي للإقصاء السياسي… ليس هناك توافق تام داخل الحركة، ولكن ما سبب الخلافات الدائرة حاليا؟. ضد التخلي عن الباجي هناك سببان أحدهما ظاهر والآخر خفي: فأما الظاهر فيتمثل في وجود أفكار متعارضة مع أفكار رئيس الحركة ومؤيديه. هذا الاختلاف في الأفكار يتجدد خلال اتخاذ كل قرار مصيري لكن المهم فيه أنه قرار فكري وليس شخصيا ما يعني أن من يختلف مع الغنوشي في موقفه من التوافق مع الباجي قد يكون أكبر داعم له في الفصل بين الدعوي والسياسي. اليوم اختار الغنوشي أن يقف إلى جانب الشاهد وأن يدفعه نحو تأسيس حزب جديد يحل محل النداء وله مبرراته التي يتأجل الحكم على مدى سلامتها. ما يهمنا أن هناك طائفة من داخل النهضة لا تقتنع بهذا التوجه إما خوفا على الحركة من امكانية انقلاب الشاهد عليها في الوقت المناسب له وغير المناسب لها، أو خشية على الحركة من الانعكاسات الأخلاقية السلبية للتخلي عن شريكها السابق في التوافق. لا ننسى بأن النهضة صارت متهمة بتدمير كل من يتقرب منها ويتحالف معها، لكن هذا السبب الظاهر لا يكفي لتفسير سبب الخلافات التي ارتقت إلى صراع أجنحة: حرب خلافة نقصد بالسبب الخفي ما يتحاشى النهضويون الخوض فيه علنيا وهو حرب الخلافة على الزعامة والرئاسة، فالمعلوم أن الغنوشي لا يقدر على الترشح لولاية قادمة بما أنه استوفى حقه في الترشح تبعا للقانون الداخلي، ومن الطبيعي أن يبدأ كل طامح للرئاسة والزعامة في التعريف بنفسه خارجيا وتقديم أفكاره داخليا. على أن المناورات ليست شخصية بالضرورة بل تتخذ في جانب منها طابع المجموعة ولهذا يتحدث البعض عن صراع أجنحة وليس عن صراع بين شخصيات معينة. هذه الأجنحة تتضمن المتشددين أو ما يطلق عليهم بالصقور وهم في الأصل من الجيل المؤسس المنغلق على أفكاره والرافض لأي مس بالثوابت، وتضم أيضا المتفتحين ومؤيدي رئيس الحركة في البحث عن التأقلم، وتضم كذلك جيلا جديدا يحاول أن يدافع عن أفكاره التي تتضارب أحيانا مع أفكار الغنوشي وأتباعه ما يعني في النهاية أننا مررنا من صراع ثنائي كلاسيكي داخل الحركة بين الحمائم والصقور إلى صراع آخر ذي طابع فكري سياسي يختلف عن الصراعات السابقة بفتح الأبواب المغلقة وإطلاع الأجانب عما يحدث داخل البيت من خلافات فهل يؤثر هذا على تماسك الحركة؟. محصنة ضد التفتت ليس هناك حزب ديمقراطي خال من الخلافات الداخلية والاختلافات في الرأي فلولاها تنتفي الديمقراطية ويحل الاستبداد الذي يفرض فيه القائد سياسته وأفكاره دون أن يجد من يجرؤ على معارضته. الخطر الوحيد يكمن في غياب الانضباط الحزبي الذي يساعد الأجنحة المختلفة في ما بينها على مهاجمة بعضها البعض على حساب مصلحة الحزب فيصيبه ما أصاب نداء تونس من تفتت وإيذان بقرب الانهيار التام وما أصاب حزب المؤتمر من نهاية وانصراف كل قيادي إلى حزبه الخاص. هذا الخطر نجت منه حركة النهضة في جميع خلافاتها الداخلية السابقة لأن شدة الانضباط الحزبي والخوف على مصلحة الحزب كانت تدفع بالقيادي الغاضب إلى الانسحاب (مثال رئيس الحكومة الأسبق الجبالي) أو البحث عن فضاء آخر (مثال رياض الشعيبي الذي أسس حزب البناء الوطني)، وفي جميع الحالات يلازم الغاضب الصمت حتى لا يلحق الضرر بالحركة التي تؤويه أو كانت تؤويه. الجديد هذه الأيام أن هناك كشفا علنيا عن خلافات كانت تدور خلف الأبواب المغلقة لكن هذا الطارئ لم يمس الشرط الأساسي من شروط الانضباط الحزبي وهو التهجم على الحركة وكشف عيوبها المدمرة وإثبات ما تنفيه من تهم. حركة النهضة ليست من الأحزاب التي تتأثر بصراعاتها الداخلية وإن كتب لها أن تتأثر فسيكون ذلك بسبب تدخل خارجي أو بسبب قرار انتحاري داخلي من رئاستها تحديدا. ديمقراطية نسبية نتحدث أحيانا عن تميز حركة النهضة في الممارسة الديمقراطية على المستوى الداخلي فهي تتخذ المواقف المصيرية داخل مجلس الشورى وهي لا تضع موانع أمام تعبير أعضائها عن آرائهم بحرية لكن هذا لا يعني ممارسة حقيقية للديمقراطية. فالعديد من الخيارات تتخذ بشكل فوقي دون العودة إلى القاعدة ومثال ذلك خيار التوافق مع النداء وخيار الدفاع الحالي عن الشاهد. للدلالة على نسبية العملية الديمقراطية يمكن أن نسأل استفهاميا وإنكاريا عن سبب تمرير كل القرارات التي يقترحها رئيس الحركة وعدم تمرير أي خيار لا يدافع عنه ولا يتبناه. تاريخ من الصراع الداخلي لم تخل حركة النهضة قط من الصراعات الداخلية حتى تكاد توصف بحركة الصراعات، فالصراع الأول تم في فترة ما قبل التأسيس (أوائل السبعينات) عندما فكرت طائفة من «الجماعة الإسلامية» بقيادة الغنوشي في التخلي عن المبدأإالأساسي للجماعة وهو الاكتفاء بالجانب الفكري دون الخوض في السياسي وانتهى هذا الصراع بظهور «الاتجاه الإسلامي» ذي الأبعاد السياسية وخروج جماعة «اليسار الإسلامي». وفي بداية التسعينات ظهر صراع أجنحة بين الغنوشي وصالح كركر بالتوازي مع صراع محموم حول خيار «حرية المبادرة» التي عارضها البعض مثل عبد الفتاح مورو. وقبل انتخابات 2014 ظهر الصراع بين الصقور الراديكاليين (شورو واللوز والبناني…) في مقابل الحمائم (الغنوشي وأتباعه) ثم ظهر صراع بين المحافظين المدافعين عن ثوابت الحركة (الجبالي وبن سالم والمكي…) ضد المتفتحين الراغبين في التأقلم عبر الفصل بين الدعوي والسياسي. اليوم نجد نوعا آخر من الصراع الفكري والسياسي بين الجيل المؤسس والجيل الذي لحق به وتضرر معه وبين الجيل الجديد الطامح إلى تجميل الحركة وإخراجها بلوك عصري (دعاة المدنية مثل زيتون).