وإذا ما اتّفقنا أنّ الشّعر يعبّر عن رؤية إبداعيّة للكون، رؤية تستخدم اللّغة في صياغة موقف الشّاعر صياغة مجاوزة، وهي ذات الصّياغة الّتي تهدف إلى توسع الدّائرة اللّغويّة، وإنتاج لغة جديدة، وهو الأمر الّذي يجعل من وظيفة الشّاعر وظيفتين متجادلتين، إحداهما تتعلّق باستخدام اللّغة بوصفها أداة للتّعبير عن فرادة التّجربة، والأخرى تهدف إلى التّطوير الجذريّ لهذه الأداة وآليّات استخدامها، وربّما يكون الحكم على أهميّة أيّة تجربة نابعة –في نقاط ارتكازه الأهمّ- من النّظر إلى هذين الشّقّين الوظيفيّين في البداية، وهو النّظر الّذي لا يغفل موقع التّجربة الإبداعيّة بناء على هذه الاستخدامات من باقي تجارب جايلتها أو جادلتها، وهنا نلاحظ البراعة في استخدام التّشاكل اللفّظي لتكوين الاستعارة التّي تضفي جمالا على التركيب معتمدة ما يتكرّر في التعبير: أيا تونس الفلّ وفي الفلّ وللفلّ ومن الفلّ رداك أيا تونس السّحر وفي السّحر وللسّحر ومن السّحر مناك أيا تونس الفخر وللفخر وبالفخر علاك أيا تونس الشّعر وبالشّعر وللشّعر سناك...(15) تنطلق الشّاعرة د.ريم من اللّفظة –إذن لتجوب بها عالمها الخاصّ، ولتمنحها حياة جديدة مستمدّة من وجودها في النصّ، حتّى ليبدو نصّها في بعض الأحيان محمّلا بما ينوء به من ذلك النّوع من الألفاظ، بيد أنّ التّكوين المميّز للصّورة يواري هذه السّمة لتبدو على السّطح المعالجة المبتكرة للخيال الشّعريّ ترتوي من زلال الوجد تشعل شموع أعراسها تنهل من نبع الضّوء وترقى لمرايا المدى.. تنسج من حرير المعنى حروف قصائدها... ومن عيون النّجم تحيك رحيق بهجتها... في مقهى «طلّة» العابق بآهات الحالمين وفي سماءها المطرّزة بتسابيح الطّيّبين...(16) فاللّغة في تجربة الشّاعرة تنبع من الذّات لكنّها لا تقف عند حدودها فتشعّ علاقاتها الخاصّة، ومفرداتها لا تنافي الشّروط الواجب اتّباعها في اللّفظة الشّعريّة من حيث عدم كونها غريبة، فحتّى نصّ قصيدتها «يا أهل الخزي والخساسة!!» الّذي صدّرته في قولها (كلمات مرتجلة تصدر من قلب متفجّع على واقعنا المأزوم) قد راوحت فيه بين الفصحى والعاميّة ،العاميّة التّي استخدمت بعض ألفاظها لتتسق مع بنية ومعاني النصّ الشّعري: كفّوا، كفّوا عن خزيكم يا أهل المكر والخساسة سوّدتوا تاريخ الوطن بالرجس والنجاسة لوّثتوا ورود الشّهيد.. وخنتوا وعودنا وأساسه.. وألبستوا قناع الخبث والتّزوير والتّضليل والقهر والشّراسة.. كفّوا، كفّوا... يا خيوة الشّيطان! هو خليلكم وأنتو حرّاسه عبثتوا بثقة البسيط ولوّثتوا كسرة المسكين وقلبتم الوطن على راسه كفّوا! تعبنا، شبعنا، رضعنا من حليب الذلّ ومن هيافة فكركم تجرّعنا كفّوا عنّا، ما عاد فينا ما يتمشمش.. حلّوا عنّا...(17) ونلاحظ في هذا المقطع وغيره من المقاطع في نصوص أخرى كيف يمكن أن تنبني الصّورة الشّعريّة على الحركة من خلال تراكم الأفعال وتتابعها، ليصبح الفعل لونا، خيالا تتحمّله الحالة الشّعريّة، وإذا كان الفعل يحمل في طيّاته زمنا، وسرديّة لا يكمن إغفالها تضفي حركة واضحة على القصيدة فإنّ ممّا لا يجوز إغفاله –كذا- تلك المقاطع الحافلة بالسّرد والّتي تتّخذ في نصوص الشّاعرة د.ريم عيساوي مكانا ذا أهميّة كبرى، فهي مفتتح النصّ ونقطة بدايته المشعّة لتجربتها في :«لكنّك لن تكون إلاّ شاعرا...»: كن سرّا من أسرار التّشرّد في عيون اللّيل المذبوح على كراسي المقاهي الباردة.. كن ارتعاشة الطّير بين أصابع البرق تهدهده سنابك الأنواء.. كن نفحة من أنفاس الصّيف الحارقة.. حبيبك كأس النّسيان ولا أنيس لك سوى شوكة القلق تنغرس في بؤبؤ العين وترحل عبر الشّرايين المحترقة.. كن كما تريد.. كن نجمة حيرى أو نجمة متهجّدة.. كن شعاعا من ضوء الشّعر ينطفئ على رصيف الأوقات الهاربة...(18 الهوامش (15): المصدر نفسه. قصيدة «ترنيمة الوطن». ص: 83 – 84 - 85. (16): المصدر نفسه. قصيدة «على صدر مملكتين». ص: 45. (17): المصدر نفسه. قصيدة «يا أهل الخزي والخساسة!!..». ص: 102 – 103. (18): المصدر نفسه. قصيدة «لكنّك لن تكون إلاّ شاعرا...». ص: 50 – 51.