تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"السِّراجُ عالياً" للشاعر الفلسطيني "مُراد السُّوداني" : صَهيلُ صُوَرٍ باذِخَةٍ تَفِيضُ عَن وَجَعٍ بألْجِمَةِ الجَّمال
نشر في حقائق أون لاين يوم 19 - 08 - 2015

إذا بَدأنا قراءةََ المجموعةِ مِن عُنوانِهاَ عازٍمٍينَ على دُخُولِ هذا الفَضاء الجَّماليّ بالتَّوَقُّفِ عنْدَ عَتبتِهِ سَنُلاحِظُ أنَّهُ عندَما تكونُ هاتانِ المُفْرَدَتان "السِّراجُ عَالِياً" مفتاحَ العَمَلِ الشِّعريّ بقصائدِهِ كافَّة فَمَعْنى ذلكَ أنَّ الفَضاءَ مُعْتِمٌ . إنَّهُ ليلُ الاحتِلال الذي يُسَرْبِلُ بِلادَ الشَّاعِرِ /فلسطينَ منذ أكثرَ مِن ستّينَ عاماً مَضَتْ قبلَ صدور مجموعتهِ التي نحنُ بِصَدَدِ مُقارَبَتِها : "ستُّونَ والمَنْفى على ريشِ الصُّقُورِ الصَّائحاتْ...وبِلادنا انتَصَبَتْ خياماً في بَراري الله"(ص64) ولذلكَ رَفَعَ "السِّراجَ عالياً" كي يُضيءَ أوْسَعَ وأعْمَقَ حيِّز مُمِكِنٍ مِن هذه العتمةِ القاسية.وَمُسْبَقاً نَعْرِفُ أنّ السِّراجَ حِبْريٌّ ذلكَ أنَّ "الكَلامَ يُضيء" (ص29)، ولكن لكلام الذي يُعَوَّلُ عليهِ هُنا ليسَ "الهُجْنَة" التي "تَلُغو بِها صُحُفُ الصّيارِفَةِ الكِبار"(ص21) بل هُو ذلكَ "الكلام الغريب الجريء"(ص29) هُو ماهمدَ مِن لهيبِ النّارِ بَعْدَ أن سَرَقَها الشاعِرُ/سارقُ النار ، لذلكَ "هَبْوٌ هُوَ الشِّعْرُ إذْ يَتَفَلَّتُ..."(ص23).وعلى الرُّغمِ مِن أنَّهُ يَرى "مَرْجَ الكَلامِ مُصْفَرَّاً" فإنَّ"أكباشَ رؤياهُ اسْتَبَحْنَ الصَّمْتَ" (ص17) ،و لذلكَ يخاطِبُ صديقَهُ المُحارِبَ:
"...لم يَبْقَ غَيْرَ القوافي مُذَخَّرَةً جارِحَهْ
لم يَبْقَ غيْرَ السِّلاح
لِنَكتبَ نَصَّ البَقاءِ المُتاحْ..."(ص103)
فالشاعرَ إذَنْ لا يجِدُ مَن يستغيث بِهِ غَيْر الشِّعْر:
"أدْرِكْنِي أيُّها السيِّد الشِّعْر
فَقَدْ شَلَحَتْنِي الحبيبةُ
شالاً على شَجَرٍ أزرَقٍ يَحْتَرِقْ".(ص106)
ولكن هَل كانَ "مُراد السُّوداني" وفيّاً لِهذا "المُغيث" الذي يخذلُ عادَةُ مَن لايُوقِفُ لَهُ جُلَّ وَقتِهِ وإحساسهِ وتفكيرهِ وَمَعارِفِهِ وَمَهاراتِه ؟.
-1-
صدرت مجموعة الشاعر مراد السوداني"السِّراج عالياً" عن بيتِ الشِّعر الفلسطيني بمدينةِ "رام الله" سنة2009 مُتَضَمِّنَةً ثلاثاً وعشرين قصيدةً في أربعةِ فصول (مَدارِجُ الصّبابَةِ ،مَدارِجُ السِّراج ، مَدارج جامِحَة ، مَدارِجُ العِتاب) وَقَعَت في 112صفحة مِن القَطْعِ المتوسِّط ، بطبعةٍ أنيقةٍ وبغلاف صمّمَتْهُ "نَغَم الحلواني" (مُصَمِّمَة أغلِفَة كُتُب وصانعة حلوى فلسطينيّة صحيّة خالية من الأصباغ وعضو مركز تطوير الأعمال) كما صمَّمَتْ " نَغَم " صفحات المجموعة الداخليّة ، انطلاقاً مِن زاويةِ رؤيةٍ بسيطة وصحيحة أفْضَتْ إلى أن تكون أرضيّةُ الغلاف بصفحاته وطيّاتِهِ كافّة باللون الأسود الذي نُقِشَ على الصفحة الأولى مِنه العنوان "السِّراج عالياً" باللونِ الأحمر وتحته اسم الشاعر باللون الأبيض بينما حَمَلَتْ الصفحة الأخيرةُ مِن الغلافِ زخرفةً نباتيّة بِقَدر ماتُؤَشِّرُ البُعْدَ العُروبيّ في مرجعيّةِ الشاعر الفكريّة فإنَّها تؤكِّدُ البيئة الريفيّة كمرجعيّةٍ نفسيّة وحسيّة وتخييليّة لِقصيدتهِ التي تجاوَرَ فيها شكلان إيقاعيّان : العَمودي حيث يتكوَّن النصُّ الشِّعْريّ من أبيات لكل بيْتٍ مِنها صَدْرٌ وَعَجْز وتجمَعها جميعاً قافيةٌ واحدة وتفعيلاتُ بحْرٍ واحِد ، والشكلُ الثاني عُرِفَ بالحر أوالمُرسَل ويعتمدُ النصّ الشِّعريُّ هنا وحدةََ الموضوع وليس "بيتَ القصيد" وتفعيلةً واحِدَة تنتظِمُ السطُور الشّعريّة وربّما أكثر مِن تفعيلة حينَ يَقَعُ مَزْجُ البُحُور أو الانتقال مِن بَحْرٍ إلى آخَر بليونَةٍ أو بنشاز تحدِّدُهما مَهارَةُ الشاعِرِ التقنيّةُ وَحسُّهُ الموسيقيُّ كما قد تتعدَّدُ القوافي في النصّ الواحد .
وقبْلَ هذه المجموعة أصدَر الشاعرُ المولودُ بتاريخِ 1973/6/23في بلدَةِ دير السّودان قرب رام الله ، مجموعتين شعريّتين هُما "رَغَبُوت"1998،و"إشارت النّرجس"2002...و لم تُتَحْ لِي فرصَةُ الاطِّلاع عليهما.
-2-
ولكن هذا لايعني بتاتاً أن "مُراد السّوداني" مِن أولئكَ الذينَ مازالوا يُعَرِّفُونَ الشِّعْرَ بأنَّهُ "كَلامٌ مَوزونٌ مُقَفَّى" ، بل هُوَ مِن الذين يبنونَ قصيدتَهم الواحدة على دفعات وبأشكالٍ إيقاعيَّة مختلفة كأن يُجاوِرُ الشكلُ الإيقاعِيّ العموديّ الشكلَ الإيقاعيّ الحُرّ في أربع قصائد هي"زاجلُ المعنى"التي مَطلع المقطَع العموديّ الذي تضمَّنته هو(ص11):
ومُكتَحِلاً ليلَ البلادِ كأنَّه رباباتُ رعيانِ الجِّبالِ وَفَوْحُها
و"مُناغاة" التي اختُتِمَتْ بمقطَعٍ عموديّ مطلعهُ هو(ص49):
لِمِثْلِكَ سدْرَةُ المَعْنى تطوّحُ بي ركائبهُ
وختمَ قصيدةَ "حكمة السِّراج" بمَقطَعٍ عمودِيّ مَطْلعهُ هُو(ص54):
شَقِيٌّ والمَدى شَرْدٌ وَمَدُّ وَحُزْنِيَ بَرُّ لَيْلٍ لا يُحَدُّ
كما افْتَتَحَ قصيدَةَ "تلويحة" التي أهداها إلى صديقهِ "المُحارِب الشهيد عبدالله داوود ورفاقه في مُغتَرَبِهِم ، وَمَطْلَعها هو(ص66):
وَمُنْفَرِطٌ قَلْبي على ظَعْنِهِم ضُحىً فَلا حُزْنُهُم يُبْقِي ولا نأيُهُم أبْقى
وفي هذه المقاطعِ العموديّة يَتجلّى "مُراد السّوداني" لِقارئهِ خَلَفاً مُجيداً لأسلافِهِ شُعراء القصيدة العربية العموديّة مِن امرؤ القيس حتى محمد مهدي الجواهري مرورا بأبي فراس الحمداني وأبي الطيّب المتنبي وبدوي الجبل وأحمد شوقي وسِواهم ، فقد امتصّ الشاعر مُدَوَّنَةَ الأسلافِ فحاكى أجمَلَ شِعرِهِم ونافَسَهُ وتجلّى ذلك في المقاطِعِ العموديّة الأربعة التي أشرنا إليها أعلاه حيث مَلاحة اللّفْظِ وصحّة السَّبْكِ والتوظيف الرشيق للمحسّنات البديعيّة مِن جناسٍ وطِباقٍ وتَوْرِيَةٍ وحيث يتحقق الانزياحُ بأنواعِهِ في إبداع الصُّور الشّعريّة المُفْرَدَةِ والمُركَّبة والكُلِّيّة بمكوّناتها اللغويّة والعاطفيّة والتخييليَّة ، إلا أنّ الشاعر نفسه ، وهو القائل:
"صَنّاجَة العَرَبِ القُدامى
أوْرَثُو ني فِتْنَةَ الإيقاع"(ص22)
يرتبِكُ إيقاعِيّاً عندما يُغادِرُ الشكْلَ الإيقاعيّ العموديّ إلى الشكل الإيقاعيّ الحُرّ فيتسلَّلُ الزُّحافُ والحشوُ إلى بعض المَواطِن "الحُرَّة" - وربّما خَيَّلتْ لنا أخطاءٌ مطبعيّةٌ ذلك، كأن يقول في ص(79) :
"فأنشرُ صمتي السّماويّ نُجُوماً مُعًلَّقَةً بالكلامْ" فلو حذف مفردة "السماويّ الزائدة أصْلاً لاستقامَ الوَزْنُ .أوكأن يقول في ص(69):"كُرْمى لخطواتكَ العفيّة أحرثُ" فبحذف حرف الألف الذي أرجح أنه تسلل بخطأ مطبعي إلى كلمة "لخطواتكَ" يستقيم الوزن .
ويقول في الصفحة (50):
"وها أنا صقْرُ فاجعةِ الوقتِ وهتاف بريّةِ العاشقين" والأسلم إيقاعيّاً أن يقول:
وها أنذا صَقْرُ فاجِعَةِ الوقتِ هَتَّافُ بَرِّيَّةِ العاشِقِين" أي نضيف حرفاً ونحذف حرفا...والأسلم أيضا أن يقول في الصفحة(60)" وصرْتُ الآن عرّافَ القبيلة" مُضيفاً مفردة "الآن" ،وأن يقول في الصفحة (102) "لم أجئ حُلْمَها طائعاً أو مُنادى" حاذِفاً حرف الجرّ "إلى" ، أو أن يقول في الصفحة (106):
"بلادي مُضَوَّأةٌ بالحِرابْ
ليالِيَّ ضَوَّعْتُها بالعِتابْ
ورُوحِي غريبه".
أي يستبدل مفردةَ "مُضَوَّعَة" بكلمةِ "ضَوَّعْتُها" فيستقيم الوزن.وعندما يقول في الصفحة (73):
"والسُّورُ دالِيَةُ العَذابِ وعشْبَةُ المرّارِ
في فَمِ البَلَدِ الشّهيدِ"
يستقيمُ الوَزْنُ بحذْفِ مُفْرَدَةِ "فم".فالكتابَةُ التاليةُ للنَصِّ بالحَذفِ تُجلِّي النَّصَّ وتزيده رشاقَةً وألَقاً وتُضاعِفُ أحياناً طاقَته الإيحائيّة.ولا أشكّ للحظة بأنّ شاعرنا كان سينتَبِهُ إلى ما أشرْنا إليه آنِفاً فَهو أكثر مِنّا براعةً في النَّظْم كما تُؤكِّدُ المقاطِع العموديّة في المجموعة ، لكنّ عَدَمَ التَّفَرُّغِ لِكتابَةِ الشِّعْرِ والإنشغال عَنْه بالمهمّاتِ النضاليّةِ والنقابيّةِ والإداريّةِ المُرْهِقة هُوالذي حالَ دُونَ مُراجَعَةٍ دقيقةٍ لنصوصِ المجموعة قبلَ إعدادِها للنشر وقبْلَ طباعتها فمَكَّن ذلكَ خللاً هُنا وارتباكاً هُناكَ مِن التسلُّلِ إلى بَعْض نصُوص "السِّراج عالياً"، وربّما هُو قَدَر الكثير من الشُّعَراء الفلسطينيين وخاصّة الذين أوكِلَتْ إليهم مهمات قياديّة نضاليّة قِتاليّة وسياسيّة كالشاعرالراحل صَخْر حَبَش "أبونزار" والشاعر الصامد في دمشق "خالد أبوخالد" وكلاهما قائدٌ مِن قادَةِ حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) القُدامى وفنان تشكيليٌّ أيضاً ولم تلقَ مُدَوَّنَتهما الشِّعريّة ماتستحقّ مِن اهْتِمامِ النقّاد.
ولكن هل ينتَقِصُ ذلكَ مِن شِعْرِيَّةِ قصيدةِ "مُراد السوداني"؟.
-3-
في "السِّراج عالياً" يعْنى الشاعر بتأثيثِ نَصِّهِ الشِّعْرِيّ بالصُّوَرِ الباذِخَةِ الحسِّيَّة والذّهنِيَّة (قََوسِي المُرْتَجى قلبي / وأُطْلِقُهُ ظِباءً ساهِماتِ الخَطْوِ/ قافِلَتِي طُيُورُ النّارِ../أسْئلتي نُجُومٌ ساجِياتٌ في كتابِ الليلِ /سرِّي مُنتأى النَّجْوى .../فراءُ ثعالِبي ثلْجٌ../ وَبَرٌّ غاضِبٌ صَمْتِي) ص 20-21 ، وبالمُفرداتِ الفخمة أوتلكَ القاموسيّة التي ماعاد تَداوُلُها شائعاً في مُدَوَّنَةِ شِعْرِنا العربيّ الحديث مثْل :هبيد ، هَبْو،إثمد،فاغية،رَهْج، هجاج ...إلخ.َ
ويحرص الشاعر على أن تُجَسِّدَ قصيدَتُه حقيقةَ أنَّ الشِّعريّةَ بالانزياحَ لُغَةً والمجازَ مَعْنىً تُسَرْبلُ النصَّ وتَهَبُهُ جَماليّاً أسرارَ إدهاش ُ المُتَلَقِّي وإمتاعه وإفادته في آنٍ مَعاً.
ولئن كانَ الشِّعْر يُوحِي بالمَعْنى ولايقولهُ مُباشَرَةً ، فإنّ هذا الوَعْي بِشُرُوطِ تَحَقُّقِ النَّصِّ جَمالِيّاً يَفْتنُ القارئ ويُدْهِشُهُ في بدايةِ التَّلَقِّي
بِقَدْرِ مايُثيرُ أسئلةً مِن طِراز: إلى أيِّ مَدىً انْشَغَلَ الشاعِرُ عَن مَعْنى القَوْلِ بِكَيْفِيَّتِهِ ؟، وَهُو انْشِغالٌ مَحْمودٌ عندما يُمَكِّنُ المُتَلَقِّي مِن مَفاتيح تُمَكِّنُهُ مِن الوُلُوجِ إلى النَّصِّ الذي تَدْفعهُ المُبالَغَةُ في المُحَسِّناتِ البديعيّةِ إلى دائرةِ الإبهام . وَمِن مَفاتيح تَلَقِّي نَصِّ "هِجاج" (ص63) مَثَلاً مُفْرَدَة "ستُّون" مَدْعُومَةً بِمُفْرَداتٍ مثْل :الحرب،المنفى ، الشهداء،خِياماً...التي تُحيلُ على مُضِيّ ستِّينَ عاماً مِن رُبُوضِ الاحتلالِ الصّهيونيّ على أرض فلسطين بلاد الشاعر، ولكن كما يؤشِّرُ عنوانُ القصيدةِ فإنّ "مُراد السّوداني" في هذا الجزء مِن مُدَوَّنَتِهِ الشِّعْرِيَّةِ على الأقلّ احْتَفى بمُفرداتٍ قامُوسيّة باتَ استخدامُها نادِراً كما أسْلَفْنا ، إلّا أنَّ الغالِبَ في مُفرداتِ قامُوسِ الشاعر ، هو تلكَ المُفرَدات التي تَفيضُ عن بيئتِهِ القَرَوِيَّةِ الجَّبَلِيَّة ذات العلاقةِ بالطبيعةِ مِن تَضاريسَ وطَيْرٍ وحيوانٍ وشَجَرٍ ناهِيكَ عن إرْث الإنسان الرّيفيّ الثقافيّ والاجتِماعِيّ (الطيور كالعَصافير والحَجَل البرّيّ المُكَحَّلِ ، الريح والتفّاح، الخيولُ ونداء الزيت في الزّيتون ، كباش الوعر والرؤى، مَرْجُ الكلامِ والسُّفُوحُ والدّوالي، القَمَرُ والغزالة والخيول والبراري ، اليعاسيب ورباباتُ رعيانِ الجِّبالِ إلخ ...)فَمِن هذا القاموس البيئيّ وبمفرَداتِهِ يُشَكِّلُ الشاعرُ عِباراتهِ وَعَِبَراته.
وَيُضافُ إلى ذلكَ كُلّه مااكْتَسَبَتْهُ ذاكِرَةُ الشاعِرِ مِن القصيدةِ العربيّةِ القديمةِ وبيئتِها الصَّحْراويّةِ خاصّةً ، كما يتَجَلّى ذلكَ في مَقْطَعٍ مِن قصيدَةِ "عادات" حيث يقول في الصفحة 43:
"...وَظَعائنٌ ضَلَّتْ طَريقَ حَريرِها فاسْتَوْحَشَتْ
كم تَغْزلُ الصَّحْراءُ صُفْرَةَ لَوْنِها!
كم يُوغِلُ الطُّرَّاقُ في الرّحلاتِ والمَعْنى!
كم رَدَّدَ الحادي تَصاريف الزَّمان...".
أو قَوْله في قصيدةِ "تلويحة" (ص66-67):
"...يُنَخِّلُنِي بَرٌّ وبَرْقٌ مُخاتِلٌ
فَمَن لي بِعَيْنٍ جَمْرُها يَلْفَح البَرْقا
وَرَنَّتْ بِبابِ الوادِ فاخِتَةُ النّوى
وَناحَتْ ضُلُوعِي مِن لظى بارِقٍ رَقَّا
تُهَدْهِدُني الأيّامُ ذِئباً مُشَعَّثاً
فَدوزانهُ صَمْتٌ وإيقاعُهُ المَرْقى
فَرُبّتما تدنو لياليهِ بالصّفا
وَرُبّتما تَنْأى مَغانِيه إذْ يَشْقى
وَرُبّتما طاشَتْ سِهامُ هُمُومِهِ
وربّتما جاشَتْ رَوابيهِ فاسْتَبْكى".
- 4 -
ولاتَقْتَصِرُ البيئةُ الريفيّةُ على تَسييجِ قصيدةِ الشاعر "مُراد السوداني" بمناخاتِها وَسَرْبَلَتِها بمُفرَداتِ قامُوسِها، إنّما تُجاوِزُ ذلكَ إلى بَثِّ الوَعْيِ الاجتِماعِيّ "المُحافِظ" في النّصِّ الشِّعْريّ ، مِن خِلالِ قصيدَتَين عائليَّتَيْن تُؤكِّدان الحرْصَ على تَوْريثِ القِيَمِ والتّماسُك الأُسَريّ ، القصيدة الأولى "مُناغاة" يُهدِيها الشاعرُ
إلى وَلَدِهِ "يَمان" ، ويقولُ مُطْلَعُها (ص47):
"لِمِثْلِكَ أبتَنِي بَيْتاً مِنَ الضّحكاتْ...
لَكَ يا يَمانُ فَضاءُ هذا البَيْتِ
مُنْشَرِحاً وَمُنْسَرِحاً وتخْفقُ حَوْلَهُ الكلماتْ".
ويُواصِلُ في الصفحةِ 48:
"ياابْنِي ...وَياابْنَ مَرارَة الصبّارِ في الحَدَقاتْ...
ياابْنَ الصَّهيلِ الصَّعْبِ ...ياابْن سلالَةِ الزَّيْتُونِ مُنْقَدِحاً ورَعّاداً ...
ياابْنِي وَفَيْضُ خسارتِي مَرْقىً عَلِيٌّ
فاعْتَلِيهِ...
فَلَسْتَ هَيَّاباً وَرَجّافاً ...ولا
فإنَّكَ مُجْتَنى الصَّبْرِ الحَرُون...".
ويَخْتم الشاعِرُ "مُناغاته" ابْنَهُ قائلاً :
" ...فَيَاابْن غَزَالة المَسْرى
وجنّتهُ سَباسِبُهُ
تُغازِلُهُ طُيُوبُ الليلِ
أقْمارٌ تُلاعِبُهُ
سَرى بَرْقُ اليَمانِيّا
تِ سَيّالاً فأتْعَبَهُ
مَلُولاً يافَتى المَغْنى
تضِيقُ بِهِ مَلاعِبُهُ ".
فالقصيدةُ "مُناغاة" مِن مَقْطَعَيْن ، الأوَّلُ اعْتَمَدَ شَكْلاً إيقاعيّاً "حُرّاً" والثاني جاءَ في شَكْلٍ إيقاعِيٍّ عموديّ تأكيداً على انسجامِ الشكْلِ مع المَضمون .
والقصيدةُ "العائليَّةُ" الثانية وعنوانُها "عِتاب" تَضَمَّنَتْ حواراً حَنُوناً جارِحاً بينَ الشاعِرِ وَزَوْجِهِ أمّ أولادِه ، فَيَسُوقُ على لِسانِها في مَقْطَعٍ مُدَوَّرٍ إيقاعِيّاً(ص90):
"وَقُلْتِ: اسْتَمِعْ لِخُطاكَ التي تَعْبُر الآنَ
وَحْلَ البِلادِ ...تَذَكَّرْ صِغارَكَ في
باحَةِ الدَّارِ...الشّتُولَ التي كُنْتَ تسْقي
تَذَكَّرأنِّي انْتَظَرْتُكَ وَحْدِيَ ، والنّاسُ
في شُغُلٍ ياحبيبي".
فيقول لها بالإيقاعِ الدّائريِّ نفْسه مُبَرِّراً انشِغالَهُ عن العائلة (ص91):
اعْذِرِينِي فَقَدْجَرَّحَتْنِي البِلادُ وَضاقَ الفُؤادُ بِما قَدْ رَأيْتُ...".
وَحَتّى في قَصائدِهِ الأخرى المَعْنِيّةِ أكْثَر بالغَزَلِ غَرَضاً لم يُغادِرْ الشاعِرُ الصُّورَةَ الخَفِرَةَ والقَوْلَ "العذريّ" حتى في "مناماتِهِ" ، كقولِهِ في (ص94-95) مِن قصيدةِ "منامات":
"كُلَّما عَنَّ لِي طَيْفُكِ العَرَبِيُّ وَمشْيَتُكِ الفارِهَهْ
تَنَمَّلَ قَلْبِي المُعَتَّقُ
وباغَتَنِي - في مَدَارِجِهِ - خَدَرٌ طائشٌ".
وَلَعَلَّ أكثَرصُوَرِهِ جُرْأةً في هذا السِّياقِ قَولهُ في الصفحة95:
"كُلّما عَنَّ لِي جارِحُ الشَّالِ
الشَّفِيفُ القَمِيصُ
انْتَبَهْتُ لِلَيْلَيْنِ في رَفَّةِ الكُحْلِ
والضّحكةِ السَّارِحَهْ".
- 5 -
وَلَم يُغادِرْ الشاعِرُ المرجعيّةَ الرّيفيّةَ حتى عندَما تخترق المدينةُ نَصَّهُ الشّعريَّ مَرَّتَينِ ،بل ثلاثاً . الأولى بقصيدةِ "نَقْشُ القلب" حيث يقولُ في (ص21):
"مَوتى على بابِ المدينةِ
هذي العِظامُ رَباباتٌ تُدَوزِنُها
رياحُ العَصْف..".
(رباباتٌ ورياحٌ).
والثانِيةُ بقصيدة "تلويحة" ، فيقول بإيقاعٍ دائريّ في الصفحة67:
"أَعِدْ لِلمَدِينَةِ إيقاعَها الشَّجَرِيَّ وَعَلِّقْ على الأرْفُفِ السّاجِياتِ قَلائدَ عشْقٍ وحزْنٍ وأدْعِيَةٍ للرِّجالِ فَقَد غاضَ ماءُ المَرُوءَةِ في صَيْحَةِ الصَّقْرِ".
(الشجريّ،الصّقْر).
إلّا أنّه عندَما يخصّ "القدس" بقصيدَةٍ عنوانها "السُّور القديم" وَجَدَ نَفْسَه مُرْغَماً على مُغادرَة القاموس الرّيفي نسبيّاً - وليس نهائيّاً -فيَصِفُ المدينةَ العتيقة قائلاً في الصفحة 70:
"مُنْذ عشرينَ طَريقاً لم أجئ للسُّورْ
جاءتِ القُبَّةُ ثكلى بالمَواويلِ
وبالليلِ وأجْراسِ الكلامْ
جاءتِ الحاراتُ والأسْوَاقُ تَعْبى
تَرْشَحُ الحنّاءَ والنّارَ وأقواسَ الحنين..."
ولكن سُرْعانَ ماعادَ الشاعِرُ إلى قامُوسِهِ الرّيفي في الصفحة 73 تمثيلا لاحَصْراً ، حيث يقول:
"والسُّورُ دالِيَةُ العَذابِ وعُشْبَةُ المرّارِ"إلخ.
وبَيْنَما كانَ الشاعِرُ يُشيرُ دائماً إلى فلسطينَ كُلّها بِمُفْرَدَةِ "البلاد" (والبلادُ ...دَمُ البِلادِ قلائدُ الفوضى -ص 10، فأوراق البلاد تهرّأت زيفاً -ص21، وبِلادِيَ دارَتْ بِي كالخمْرةِ في الكأس-ص37، أوحَشَتْنِي البلاد - ص46،وَقَفْتَ تُنْشِدُ للبلاد - ص62 ،كأنَّ بِلادِيَ تَعْني سِوايَ-ص89،لأنّا بريئون جدّاً ...غَدَرَتْنا البلادُ ص101،بِلادي مُضَوَّأةٌ بالحِراب -ص106) فإنَّهُ في قصيدة "السور القديم" يُسَمِّي "القدسَ" قائلاً في الصفحة 71:
"قُل هِيَ القُدْسُ المُنادى والمُنادِي".
وإذا كانَ الشاعرُ "مُراد السوداني" في "السِّراج عالياً" يؤكِّدُ أنَّه "نسيجُ وَحْدِهِ" كما يُقال ، فإنّ البنْيَة الإيقاعيّة للمقطَعِ الثاني مِن قصيدة "السور القديم" التي تصفُ حالة الشاعرالنفسيّة وهوأمام السّور ، تُذكّرنا ببُنى إيقاعيّة مُماثِلَة تَخَللت بعضَ قصائد الشاعر الراحل محمود درويش ذات البذخ الغنائيّ الملحميّ كقصيدة "بيروت" وكقولهِ فيها تمثيلاً لاحصْراً:
"بيروت تفّاحهْ
و القلب لا يضحكْ
و حصارنا واحهْ
في عالم يهلكْ
سنرقّص الساحَهْ
و نزوِّج الليلكْ"
ومقابل ذلك يقول مُراد السوداني:
"السُّورُ رَجْفُ أسىً
والدَّمْعُ قَبْضُ يَدِي
والليْلُ شالُ نَدىً
أثْغى على جَسَدِي
حَيْران مُشْتَعِلاً
أمْسِي قناع غَدِي" (ص71-72)
علماً أننا لوأخرجْنا المَقطَعَيْن أعْلاه مِن سِياقيهما الحبريّين وقارنّا بينهما بقَصْدِ المُفاضَلَة لَما تَرَدَّدْنا في عَدّ مقطَع " السوداني" هُوَالأجْود سَبْكاً وَلُغَةً وتَصويراً وبلاغةً وبياناً.ولكنّ لو قارنّا بين قصيدتيّ "السور القديم" وقصيدة "بيروت" لاخْتَلَّ الأمْر بِحِدَّة لصالح "درويش".
**
أوَّلُ لِقاءٌ جَمَعَنِي إلى صديقي الشاعر الفلسطيني "مُراد السّوداني" كانَ عابِراً في فندق "ميليا منصور" بِبَغداد في إحْدى دَورات مهرجان المربد الشّعري زَمَن الحصار الظالم الجائر الذي امتدّ مِن مطلع تسعينات القرن الماضي حتى تاريخ غزو العراق وإخضاعه للاحتلال الأمريكي. كان "مُراد" حينها مُنْشَغِلاً بالتّرويجِ لِمجلّتيّ "الشعراء" و"أقواس" اللتين كانتا تصدران تحت رئاسته أوإشرافِهِ عن "بيت الشّعرالفلسطيني"ْ ، لذلك زوَّدَنِي حينَها بأعدادٍ مِن المجلّتين ولم يَخْطرْ في ذهنه أن يمدّني بمجموعته الشعرية الأولى "رغبوت" التي يفترض أنّها كانت قد صدرتْ ، فلقاؤنا كان سنة 1999أو بعدها ، ولذا لم أعرف له نَصّاً شعريّاً قَبل "السِّراج عالياً" الأمْر الذي يجعلني أرجِّحُ مُتّكئاً إلى مُقارَبتي أعلاه أنَّ "مراد السوداني" كانَ قبل هذه المجموعة يَعْتَمِد الشكلَ الإيقاعي العموديّ لِكتابتِهِ الشِّعريّة ، فَهُوَ في المقاطِعِ العموديّة التي تضمَّنَتْها مجموعتُهُ"السِّراجُ عالياً" ناظِمٌ بارِعٌ وشاعِرٌ مُبْدِعٌ مُجيد ، ولكنّه في قصيدة "التفعيلة" أو "الحرّة" يبدُو مُرتبكاً ويفتقد بعضُ قصائده وحدةَ الموضوع على الرغم مِن أنّ مقارنةً سريعة بين قصائد القسم الأوّل من المجموعة ""مدارج الصبابة" والقسم الأخير"مدارج العتبات" ستضع أيدينا على حقيقة أنّ نصوص الشاعر في القسم الأوّل أشدّ عناية بشروط التحقق الجماليّ للنصّ كما وردت في المتن النقديّ القديم للجرجاني وسواه كالمحسّنات البديعيّة وجماليات اللغة والصورة الشعرية المركبة إلى جانب التماسك في البنى الإيقاعيّة لكنه في القسم الأخير يبدو وكأنهُ بصدد مشروع أكثر ولوجا في الكتابة الشعريّة العربية الحديثة فيتسللل عنصرا السرْد والحِوار إلى بُنيةِ النص وتحلّ الصُّورةُ الشعريةُ البسيطةُ مَحَلَّ الصّورة المُركّبة ولكنّ الإيجازَ والتكثيف والوحدة الموضوعية يجب أن تأخذ مكانتها في النصّ على حساب الحشو والتفسير والتكراروالمبالغة في الوصف، وبالتالي ننتظرُ مِن الشاعر "مراد السوداني" ذي الزاد اللغويّ والبيانيّ الثرّ والمخيّلة الخصبة أن يُوازِنَ نَصُّهُ الشعريُّ بين محمُولِهِ المعرفيّ ومَحمُولِهِ الزخرفيّ إن صحَّ التعبير، وأن يكون الشاعرُ أكثر حُريّةً وَتَحَرُّراً في لحظةِ الكتابة الشعريّة فالحريّة المُطلَقة إبّان أي إبداع أدبيّ وفنّيّ شَرْطٌ واجِبُ الوجود ، أعني هنا أن يكون أكثر تجريبيّةُ وتَجَرُّؤاً إيجابيين.والذي يَحْدُونا إلى أن نُراهِنَ على هذا الشاعر إضافة إلى ما ذكرناه آنِفاً أو قبله أنَّهُ صَوْتٌ مُخْتَلِفٌ في مُدَوَّنَةِ الشِّعْر الفلسطينيّ فحين تتلقّى نَصَّهُ لا يُذَكِّرُكَ بشاعر مِن الأجيال التي سبَقَتْهُ أو مِن مُجايليهِ خلافاً لِما هو حال الكثير من الشعراء الفلسطينيين والعرب ، ولذلك مِن حَقِّهِ علينا أن نُصْغي إليهِ جيّداً وهو يقولُ مُخْتَتِماً قصيدةَ "الشاعر"(ص38):
" أنا الضّلِّيلُ تَرَكْتُ ورائي العُمْرَ...
ثلاثينَ حَنيناً
وَتُهْتُ على غَيْرِ هُدىً...
وَبِلادِيَ دارَتْ بي
كالخَمْرَةِ في الكأسِ ...
وَدُرْتُ بِها وَجْدا
في الخرَبِ الطافِحَةِ عُواءُ ذِئابٍ
وزَغاريدُ أفاعٍ رَقْطاء
مَشَيْتُ ...
ولا أتْبَعُ أحَدا".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.