استفحلت ظاهرة الرشوة بما تحمله من آثار مدمرة للاقتصاد والمجتمع واخلاق الناس وقد حارب الاسلام هذه الظاهرة في مختلف صورها واعتبر ممارسها خارجا عن المنهج الاسلامي القويم وتوعده بالعقاب الدنيوي والاخروي. عن هذه الافة الخطيرة نفتح ملف هذا الاسبوع. عرف العلماء الرشوة بأنها الوصول إلى الحاجة بالمصانعة، والراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل، والمرتشي الآخذ، والرائش الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا ويستنقص لهذا. وعرفها البدر الزركشي رحمه الله في كتابه المنثور: (الرشوة أخذ المال ليحق به الباطل أو يبطل الحق). وهي حرام، وجاء في شأنها اللعن لآكلها وموكلها، فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط: (الراشي والمرتشي في النار)، وكذلك روى الإمام أحمد وأبوداود وغيرهما قوله صلى الله عليه وسلم: (لَعْنَةُ الله عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي) قال العلامة المناوي رحمه الله في فيض القدير: (أي البعد من مظان الرحمة ومواطنها نازل وواقع عليهما). وقد نهى الشرع عنها لما يترتب عليها من مفاسد عظيمة، منها تحريض الموظفين على استغلال حوائج الناس بدون حق، وإن دفع المال للموظف قد يؤدي إلى جعل الباطل حقاً والحق باطلاً ومن الباطل أخذ الموظف لهذا المال بدون حق، زيادة على أجرته المقررة له، والواجب عليه أن يكون أميناً في تمكين صاحب الحق من حقه، عادلاً في خدمة الناس على أساس الشروط الموضوعة لذلك دون تحيز، كما أنَّ فيه إبطال حق بضياع فرصة يفترض أنها متاحة للجميع. فإعطاء ما بات يعرف باسم العمولة لهؤلاء الموظفين إعانة لهم على الباطل وظلم وعدوان يقول تعالى:{وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِ والتَقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2).كما ان الفوز بالعمل وغيره حق لجميع المتقدمين له، والتحايل بالمال للوصول إلى الفوز بشيء ما لا يجوز، والحرمة حاصلة على المعطي والآخذ. وقد اجمع علماء الاسلام على أن المرتشي ساقط العدالة مردود الشهادة؛ قال الخرشي في شرحه على مختصر خليل: «هذه الأمور مما تقدح في العدالة منها أخذ الرشوة أي أخذ المال لإبطال حق أو تحقيق باطل، ...ثم قال: (تنبيه): ولا تجوز شهادة مرتش أي آخذ الرشوة أي من كان شأنه ذلك». كما إنّ الآثار الاجتماعية للرشوة لا حصر لها، ولعل أخطرها أنها تقلب موازين البنية الاجتماعية باعتلاء المنحرفين مواقع لا يستحقونها في البنيان الاجتماعي، ويتراجع الملتزمون بالأنظمة والقوانين في قائمة البنية الاجتماعية، فعندما يصبح المال معيار القيمة الاجتماعية عند بعض الأفراد - بصرف النظر عن مصدره - فإنّ الأمر يؤدّي إلى اهتزاز كلّ القيم وتفشّي ظواهر الأنانية وعزوف الأفراد عن أداء واجباتهم وأنشطتهم المشروعة. كما أن المرتشي يؤثر بسلوكه في من حوله فيصبح قدوة سيئة بأفعاله، والأفعال أقوى صوتا من الأقوال، وإيحاء السّلوك أقوى من إيحاء الألفاظ لذلك ينحرف المجتمع ويصبح كيانه مهددا بالفساد والخراب . وإن انتشار جريمة الرِّشوة في أي مجتمع كفيل أن يدمر أخلاق أفراده، فينتشر الإهمال واللامبالاة والتسيُّب وضعف الولاء والانتماء وانتشار روح الاحباط والاتجاه نحو الافكار الهدامة والشاذة والانحراف بكل انواعه.