انتهى عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وانتهى معه عهد الجمهورية الأولى في ظل ضغط شعبي كبير، لن ينقطع حتى إرساء قواعد الجمهورية الثانية، التي تلبي متطلبات عصر إنساني جديد، يحيا فيه جيل جديد ينتزع دوره بإرادة لا تتزعزع، تطلعاته لا ترى النور إلا في ظل نظام حضاري مدني، يجسد رؤية استشرافية، ترتقي بمكانة الجزائر، وهيبتها في زمن التحولات العالمية الكبرى. اعتمدت الجزائر في عقودها الستة منذ بدء الاستقلال، على الشرعية الثورية في بناء نظامها الدستوري، والجيل الجديد يسعى لبناء شرعية الدستور والقانون التي تتمسك بثوابتها أمة موحدة، مستلهما إرث الثورة التحررية ومبادئها العميقة، وهو المنفتح على عالم خلّف وراءه كل العهود القديمة، مستحدثا أدوات وقوانين تتلاءم مع متغيرات كونية جذرية. الجمهورية الأولى استكملت رسالتها اليوم.. والجمهورية الجديدة تنتظر إعلان "مبادئ رسالتها" بما تحمله من برامج تتخطى التنمية، إلى بناء قواعد التقدم، التي تمتلك الجزائر القدرات المادية والبشرية لمدّ صرحها على أسس حضارية معاصرة، يجعلها منارة بين الأمم. الدستور المعدَّل في مناسبات متنوعة، لم يحم الجمهورية الأولى من مساوئ الانحراف الذي دفع ثمنه الشعب في حياةٍ لم تر الاستقرار الاجتماعي المنشود، مع تنامي نسب البطالة على مستوى الشرائح أجمع، وتراجع معدلات التنمية في القطاعات كافة، في ظل تحالف غير شرعي بين المنظومة السياسية ورجال الأعمال اللذين وظفا أكبر تنظيم نقابي لدعم برامج هيمنتهما على مقدرات الأمة، باعتباره المالك لصمّام أمان هدوء الطبقة العمالية، وضمان سكوتها على مواضع الخلل الممتدة في شرايين وطن كبير، وتهدد بنى مجتمع موحد، لم تفتح أمامه الأبواب لاستثمار طاقاته وقدراته العظمى، بما يمتلكه من ثروات ومواقع إستراتيجية وتنوّع بيئي يجعله الأكثر ثراءً، لا في إفريقيا فحسب بل في العالم العربي وأوروبا. الجزائر تمتلك مقومات دولة عظمى، كما كانت في القرن التاسع عشر، الأعظم والأقوى من أوروبا مجتمعة، قبيل الاحتلال الفرنسي البغيض، موارد طاقية، وقدرات بشرية هائلة، وتضاريس متنوعة، جبال وغابات وصحراء ومياه، وطرقات وممرّات برية وبحرية وجوية خالية من التعقيدات، حتى أضحت هي الأكثر انسيابا في دول العالم، والأكثر تأثيرا في جغرافيا أوروبا وإفريقيا. نابليون بونابرت، القائد العسكري الذي غزا بعض دول العالم، كان يخشى غزو الجزائر، وحين أراد أن يحثّ أوروبا على غزوها كتب لقادتها في رسالته الشهيرة: "لو كان هناك عرقٌ ينبض في الجزائر فهذا بحد ذاته يشكل خطرا على أوروبا". كشف نابليون في رسالته عن مقومات القوة والطموح لدى الإنسان الجزائري، هذه القوة التي مازالت فرنسا والغرب تخشاها، فهي قوة لم تضمحل يوما، حتى بلغ مداها الزمن الحاضر، بأدوات إنسانية حضارية وضعت اللبنات الأولى لجمهورية القرن الواحد والعشرين التي تقبر بقايا عصر استعماري بغيض، وتهد كل ركائزه، وتبعث القدرة المجتمعية على إعادة بناء الوطن وفق مقومات الاكتفاء الاقتصادي والتكامل الحضاري المنشود. بقلم : عبد الرحمن جعفر الكناني (كاتب عراقي)