الظاهرة الأولى التي ميزت الفعل الثقافي في مواجهة العولمة هي محاولة تفجير الكامن واخراج الراكد في مجلات الفكر من دهاليزه التاريخية والميتافيزيقية، انه حوار منفتح على آفاق وجودية أرحب لا قطيعة فيها بين الخاص والعام. وهو عمل له دوافع عديدة أهمها الرغبة في انتصار العقل وسيادة المنطق العلمي. إن هذا النوع من الارتباط الثقافي هو الذي سوف يؤدي إلى تعميق فعل المشاركة، بما يقتضيه من احتكام الى المنطق والتجريب والاعتماد المتبادل مع التأكيد على الأبعاد التعاونية في الثقافة، ولذلك تظهر بلا انقطاع مسائل ثقافية جديدة ومتميزة بعد أن توضحت المسالك ولم يعد طرح المواضيع الثقافية يتم في إطار افتراض احتمالي حيث أن المجالات أضحت ملائمة لبلوغ الأهداف المثالية في الفكر والثقافة، ونعتقد أن تحقيقها ليس نتاج عنصر واحد بل هو نتاج عناصر منسجمة ومتوازنة. يتطلب التحليل جدلاً دقيقًا لأن الواقع ينطوي على مواقف مختلفة وخاصة مرتبطة ارتباطا بالمناهج والأدوات التي قد يؤدي استخدامها الى تطوير ثقافة معولمة واكتساب مهارات كافية تضمن الصناعات الثقافية وتعاضدها، لا سيما إذا كانت مدعومة بشبكات قوية (الأقمار الصناعية والإنترنت والهاتف، إلخ) مع قدرة عالية على نشر المعلومات والأفكار في الوقت المناسب، على نطاق عالمي، إلى جانب التحكم في أنظمة التسويق عالية السعة ....إنها نقاط متشابكة، تسهم – إذا – وجدت الإرادة وتوضحت السبل -في صناعة كميات متزايدة من المنتجات الثقافية. عناصر ابداعية فاعلة ان المشكلة اذن تتمثل في خلق عناصر فاعلة في صياغة المشروع الثقافي التونسي، شريطة أن ترتبط هذه العناصر ارتباطا متينا بالمعرفة المستنيرة والايجابية، مع إدراك الحدود بين الانساني والايديولوجي. يتطلب المرتكز الأساسي لتحقيق هذا المشروع، تحويل المتخيل الى ممكن، كما يستوجب التأكيد على حاجة أجهزتها المختلفة الى التفاعل المنطقي والجدلي مع المجال المعرفي والفكري، مع الحرص على تبديد المخاوف والهواجس والتأكيد على أن نمط الثقافة الذي يصاغ الآن في تونس انما يندرج في سياق مجتمعي عميق وإنساني في أهدافه، وليس أداة فعل سياسي دعائي وظرفي تستخدمها أحزاب وتنظيمات للوصول الى الحكم، ولذلك يتمّ الرهان منذ البدء على التماسك والتفاهم والتقارب بين وجهات النظر. ومن خلال هذه السمات العامة التي تميز الأفراد، ويجب ان نضيف إلى ذلك حقيقة أخرى وهي أن البرهان على مثل هذا التغير الثقافي يجب أن يكون أمرا مهما ودقيقا، لكن لابدّ لإتمامه من المشاركة الثقافية. فبقدر ما تتعمّق المشاركة يتشرب الأفراد مبادئ دولة الثقافة وأهدافها، ولذلك اعتبارا إلى أنها نتاج إنساني وتتطلب منجزاتها الدراسة النقدية والجرأة في خلق الوسائل الفعالة لتعديل العناصر السلبية فيها. مع التركيز على أهمية المعرفة في تشكيل ملامح الدولة وتقوية النزعة الانسانية داخلها وفي اطارها. عقلانية التواصل الثقافي إن المحاور الكبرى التي يمكن مناقشتها وادارة حوار هادئ حولها في المستوى الثقافي تكمن في إعادة تقويم المنجزات واختيار البدائل الفكرية والمعرفية المناسبة والقادرة على خلق الانسان المنتج والمبدع والمفكر، والذي لا يكتفي بترديد المألوف أو إعادة إنتاج السائد من الأفكار والمعارف. ومن اللافت للنظر أن الايمان بانتصار العقل أضحى قناعة راسخة في المجتمع، وخرجت ظافرة أمور عديدة كانت قبل مدة من الزمن تبدو مستحيلة تماما. وقد استقامت جميع الخيارات الثقافية وتجسدت في مشاريع واجراءات اعتقد أن الوقت قد حان لتوطيدها وتثبيتها. اعتبارا إلى أن الثقافة مارست وما تزال تمارس تأثيرا كبيرا في تطور المجتمع التونسي، وقد أعيد النظر في مكانة المؤسسات الثقافية وتمّ النظر إليها على أنها ليست فضاءات بيروقراطية تعمل بواسطة الطرائق التقليدية، في إطار من الجمود وعدم القدرة على التطور، بل تحول دورها الأساسي إلى عامل مهم لتيسير الارتباط بين الدولة والمجتمع المدني، على أساس السمات والخصائص العامة لكل عنصر من العناصر الفاعلة في السياقين الاجتماعي والثقافي.