مَرّة أخرى تُؤكد تونس أنها قادرة على "تدويخ" العالم بشمسها وبحرها وزيتونها وتمورها وثَوراتها ورئيسها العائد من المَوت وأخيرا وليس آخرا منتخبها الذي تَرشّح وفَرح دون أن يُحقّق أيّ انتصار في ال"كَان". إنّها "مُعجزة" تونسية تُولد في مصر التي كان أهلها ونَاسها الطيّبون يعتقدون أن الأهرامات وأمّ كلثوم ومنتخب شَحاتة هم آخر "المُعجزات" في هذه البُقعة المُعادية لليأس منذ خُروج يُوسف الصديق من قاع البئر. ومنتخبنا أيضا أشبه بمن سقط في بئر عَميق قبل أن تلتقطه صَرخة الجُمهور الثائر ويد الحَارس البطل فاروق بن مصطفى الذي أكد أنّ الفريق الوطني مازال "يَتنفّس" ويحلم باللّقب الإفريقي رغم غياب الأداء والإضراب المفتوح على الإنتصارات. إنّها حَالة تونسية غير قابلة للتقليد وقد تُحيّر العرب والغرب الذين فتحوا كُتب التاريخ بحثا عن نماذج مُشابهة لكنّهم لم يعثروا على مِثل هذه الظواهر الكروية العَجيبة. وقد تأكد الدارسون والمحلّلون ل"التجربة التونسية" أن فريقنا فعل ما لم تفعله أعتى وأقوى الأمم الكروية على غرار إيطاليا التي كانت قد استهلّت مُونديال 1982 بثلاثة تعادلات قبل أن تنجح في الإقلاع وتفوز باللّقب العَالمي. وقد حدث سيناريو مُشابه مع البرتغال التي حقّقت بدورها ثلاثة تعادلات في الدّور الأول من "أورو" 2016 هذا قبل أن ينتفض زملاء "رونالدو" ويُغرقوا شعبهم في الفَرح بأوّل كأس أوروبية. ولأنّ تونس حالة استثنائية فإنها ترشحت إلى الدور ربع النهائي لكأس افريقيا بأربعة تعادلات مُتتالية لا ثلاثة. ومن غير المُستبعد أن يُواصل فريقنا السير خطوة خطوة إلى "الفينال" دون الحاجة إلى الإنتصارات طالما أنّنا وجدنا البديل في التعادلات وركلات الترجيح التي نجحنا بفضلها في فكّ "العُقدة" الغانية. هذه "العُقدة" خَلّصنا منها جيل "الفَايس بوك" و"الكيراتين" بعد أن لازمتنا من عهد العمالقة الشتالي والشايبي والجديدي و"عتّوقة" الذي لم ولن ينسى أبدا الدموع التونسية المسكوبة على ضياع الكأس الافريقية على يد غانا (عام 1965 في تونس). نعم هذا الجيل مُتّهم بقلة الإنضباط والإفراط في الرفاهية ومع ذلك فإنه فعل ما عجزت عنه الأجيال المُتعاقبة بعد أن أطفأ "نجوم" غانا التي لن تُردّد مستقبلا قولتها الشهيرة وهي تُواجهنا: "توحشناكم يا خُبزتنا". ولن يكون بوسع غانا أن ترفع راية ذلك الكَيان الذي لا يُسمّى كما حدث في انتصاراتها وأفراحها السّابقة. ولاشك في أن "التجربة التونسية" قد تُحدث "انقلابات" كبيرة في "المَفاهيم الكروية" بما أن فريقنا بلغ الدّور ربع النهائي لكأس افريقيا بصفر انتصار وبمدرّب يتخبّط في الفوضى وجامعة يشهد القريب والبعيد ومعهما "الفَار" أنها غَارقة في الإستبداد والفَساد. البعض قد يشرح هذه الظاهرة العَجيبة بالواقعية التي جعلت اليونان بطلا لأوروبا في 2004 ويعتقد هؤلاء أن منتخبنا في نسخته الحالية من أنصار "المدرسة الواقعية" وهي أسلوب "مكروه" في تونس التي تربّى جمهورها على فنون ديوة وطارق وتميم والعقربي والهرقال وبيّة... وهذه الواقعية مُدمّرة أيضا للأعصاب وجَالبة لأمراض القلب ومع ذلك فإن البعض يُساندها بقوّة مُعتبرين أن الغاية تُبرّر الوسيلة. ويُؤمن هؤلاء بأن نتائج "الجَمالية" أو"الفن والهندسة" على رأي زمالك الفرجاني ساسي غير مضمونة. وقد ينجح الفريق في الإمتاع لكنّه يفشل في الحصول على اللّقب وهو السيناريو الذي عرفه الجيل الرائع للبرازيل في مُونديال 1982. ويتضاعف الاهتمام ب"الظاهرة التونسية" في "كان" مصر في ظل مرور منتخبنا إلى الدور ربع النهائي في ذيل الناجحين والمُتّهمين ب"التكركير". والأطرف أن فريقنا صمد ورفض رمي المنديل في الوقت الذي انهارت فيه القُوى التي كانت تتصدّر لائحة المنتخبات المرشحة لنيل اللقب مثل المغرب والكامرون ومصر وهي صاحبة الأرض والجمهور و"أمّ الدنيا" وسيّدة الكؤوس الإفريقية لكلّ الأوقات. لقد تَحوّل منتخبنا إلى "لغز" يعجز عن تفسيره المُحلّلون الفنيون وحتى كهنة معبد آمون الذين لو شَهِدوا مُغامرتنا مع "جيراس" لقالوا إن أرض تونس "سخونة" ويحرسها الأولياء الصّالحون وإن "ناموا" فإنّ الحظ ينوبهم.