عليك أن تكون أفضل من قايد السبسي أو على الأقل في قيمته حتى تضمن حظوظ النجاح، هذا المطلوب اليوم من كل مرشح للرئاسية القادمة بعد ما رفّع الباجي في سقف المواصفات الواجب توفرها في الرئيس القادم بما صعّب مهمته. تونس (الشروق) «موت الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي طرح معايير جديدة للتونسي لاختيار رئيس الجمهورية القادم…»، هذا ما قاله نائب رئيس مجلس النواب عبد الفتاح مورو قبل أن يضيف في مداخلة له على أمواج أكسبريس الاثنين الماضي أنه «بعد وفاة الرئيس الراحل لا يترشح للرئاسية إلا من كان أهلا لها». هي عينة مما يردده العديد من السياسيين وهي أيضا جزء من قناعة العديد من الملاحظين وعموم الشعب بعد وفاة الرئيس الأول المنتخب ديمقراطيا. وفاة الباجي قايد السبسي قلبت العديد من القيم والمفاهيم والأحكام وحتى الآراء، فحتى أواخر حياته لم يكن يحظى بإجماع جميع التونسيين ذلك أن جميع نتائج سبر الآراء خلال السنة الجارية لم تكن تضعه في المقدمة ولكن غيابه النهائي عن الحياة وخاصة المشهد السياسي أزاح الغشاوة وذكّر التونسيين وجزءا من العالم بما فعله الباجي. يبكيه الجميع لن نعثر مستقبلا على رئيس يجمع عليه التونسيين كلهم، ففي مناخ ديمقراطي لن يكون هناك شخص واحد محل إجماع ولكننا سننطلق من بعض المقاييس في تحديد مدى أهلية الرئيس القادم ومدى قبول الشعب به ورضاه عنه، المقياس الأول هو ردة الفعل تجاه أي مكروه يصيبه سواء أكان مرضا أو عجزا أو وفاة… علينا ألا ننسى أن أغلب التونسيين حتى خصوم الباجي ومعارضي سياسته تداعوا له بالتعاطف والمودة منذ إصابته قبل أسابيع وأن جميعهم فرح لمغادرته المستشفى وأن كلهم حزن لوفاته. على المترشح للرئاسية أن يتساءل إن كان سيلقى ردة الفعل ذاتها من الفئة التونسية الواسعة إن مرض أو توفي (مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأعمار بيد الله). عليه أن يتساءل بعدها إن كان سيجد خصما يبكيه كما فعلت سامية عبو بعد وفاة الباجي وآخر يتمنى حمل نعشه على كتفيه كما تمنى الرئيس السابق منصف المرزوقي وآخر يسير خلف جنازته كيلومترات عديدة كما فعل مورو رغم مرضه وتقدمه في السن... ولكن ماذا فعل الباجي ليرفع سقف المواصفات؟. وطني رغم التشكيك الباجي رئيس عادي بنظرة عمومية وشاملة وهو بشر يخطئ ويصيب ولكن ما رفع أسهمه أنه جمع بين صفات حميدة خلال فترة حساسة من تاريخ تونس وهي فترة تصحيح المسار وتعديل بناء الدولة وإنجاح التجربة الديمقراطية بعد قطيعة ابستمولوجية وضعتها الثورة ضد التجارب السياسية التي سبقتها. الباجي كان وطنيا مهما تعالت أصوات المشككين ودليل وطنيته في الأدوار التي لعبها منذ فجر الثورة لإنقاذ تونس وتيسير إجراء انتخابات المجلس الوطني الدستوري والمساهمة في إنقاذ البلاد من الحرب الأهلية والتوافق مع حركة النهضة لما فيه خير تونس… سنجد عشرات المواطنين المشهود لهم بالوطنية لكن هذه الصفة لا تكفيهم ليكونوا في قيمة السبسي أو أفضل منه بل عليهم أن يتصفوا بما كاد يشذ به عن أغلبية السياسيين. السبسي مثقف، بل كان موسوعة يستدل بالشعر مرة ويستشهد بالقرآن مرات وهذه مثلا كانت من أبرز عيوب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. يتحدث بلغة الشعب الباجي يتقن الفرنسية كما العربية كما العامية العتيقة ذات الامثلة التي نراها اليوم غريبة لكن عبارة مثل الكوع والبوع والركب والدربالة لا تثير غرابة التونسي فحسب بل تشده إلى قائلها لأن في لاوعي كل منا شد نحو جذورنا لهذا كان البعض منا يحب الباجي فيما كان البعض الآخر يغضب منه ويعارضه دون أن يكرهه. روعة قائد السبسي أنه كان مباشرا في كلامه حاضر البديهة قادرا على التعليق ورد الفعل والمواجهة والمحاججة وافر الفطنة جيد الذاكرة وهذا يحسب لمن تجاوز السبعين لاسيما وأن أمراض الذاكرة باتت تهدد الشبان منا قبل الكهول والشيوخ. هل يمكن لجحافل الطامعين في الرئاسة أن تجمع بين هذه الصفات وأن تكون قريبة من الشعب وأن تتحدث بلغته؟. سيجيب البعض حتما بالإيجاب وسيعدد فلان وفلتان… فنسأل من باب الإضافة إن كان في العينة حداثي يحفظ القرآن كما يحفظ الشعر العربي ويهتم بالحاضر كما يستحضر أدق تفاصيل ما حدث قبل 60 أو 70 سنة؟. عودوا إلى كتابه لتكتشفوا أن الراحل كان كمن يكتب مذكراته كل يوم. تجاوز بورقيبة لدينا في تونس وطنيون مثقفون واعون مطلعون مثل الباجي وربما أفضل منه، لكننا نستسمحهم في تضييق دائرة المواصفات فمع هذا كان معتدلا دينيا وفكريا وكافرا بالتطرف والغلو ودبلوماسيا متى وجبت الدبلوماسية ومادحا متى وجب المدح وشاتما إن رأى فائدة في الشتم. الباجي شتم الصحفيين يوما وسخر من رجال الأمن يوما آخر لكن غضب الفئتين لم يعمر… ننصح الرئيس القادم بألا يحاول تقليد الباجي في هذا فالطرف المعني لن يغفرها لها إلا إذا كان في قيمة الباجي. الراحل كان يقتفي أثر بورقيبة في بناء الدولة وإرساء التسامح...، ورغم محدودية صلاحيات الأول فقد تغلب على الثاني في المأخذ المهم الذي يعيبه أعداء البورقيبية على بورقيبة، فالباجي كان متفتحا سياسيا ناكرا للتسلط محترما للدستور مدافعا عن التعددية قابلا بشروط الديمقراطية غير معترض على خسارته قضية عدلية لفائدة مواطن عادي يعرفه جلنا باسم عماد دغيج. «عارضنا الباجي قايد السبسي وانتقدناه بحدة بخصوص قانون المساواة في الميراث لكننا لم نسمع أن عالما أوقف أو أحدا أسكت أو أحدا صودر رأيه» هكذا بكاه منتقده الشيخ الدكتور منير الكمنتر قبل أن يعترف كما فعل العديد من الموضوعيين بأن «الباجي رحمه الله وضع تونس على طريق الديمقراطية والحريّة والعدالة ولا خوفَ عليها بعد اليوم». بعض ما قيل في الباجي بعد وفاته «الباجي فارقنا يوم عيد الجمهورية التي قضى حياته في خدمتها وصياغة مكاسبها والدفاع عن قيمها، وبعد أن قضى عمرا في خدمة الشعب وخدمة الوطن وخدمة الدولة» (محمد الناصر القائم بمهام رئيس الجمهورية). «تعلّمت الكثير من الباجي قائد السبسي، كان رئيسا عظيما ولديه قدرة كبيرة في الإقناع». (الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون). «رحيل الباجي قايد السبسي هو خسارة للجزائر وللعرب والمسلمين وجميع محبّي السلام عبر العالم». (الرئيس الجزائري عبد القادر بن صالح). «الفقيد الباجي قائد السبسي، نجح في تغيير التاريخ بفضل سعيه المتواصل لتكريس الديمقراطية في تونس والمحافظة على مكاسب الجمهورية». (رئيس البرتغال مارسيلو ريبيلو دي سوزا). «الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، كان طرفاً فاعلاً وشجاعاً على طريق الديمقراطية في تونس، كان رجل دولة ومسؤولاً في تفكيره وأفعاله، ودفع بالتغيير الديمقراطي في تونس قدماً وبشكل حاسم…». (المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل).