وفاة الباجي رفعت أسهمه وأعادت اكتشاف معدنه وحسست بعض معارضي سياسته بالذنب والأهم أنها هوت بأسهم خصومه وأضعفت حظوظهم في إمتحان الانتخابات الرئاسية. تونس (الشروق) «أنت يا باجي اليوم شخصية لا نستطيع اللحاق بها...»، هكذا خاطب رئيس مجلس النواب بالنيابة عبد الفتاح مورو روح الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي غداة جلسة التأبين التي انعقدت مؤخرا بمجلس نواب الشعب. مورو أضاف في كلمته المؤثرة: «الجميع أمامك أصفار يا باجي» وهذه الأصفار تجمع بيننا كلنا وخاصة من يملك الجرأة لمحاولة الحلول محل قايد السبسي بعد فوزه بالرئاسية القادمة. الباجي لم يكن ملاكا ولا نبيا ولا معصوما من الخطأ ولكن وفاته أثرت في التونسيين معظمهم ودفعتهم إلى إعادة نقد سياسته والوقوف على إنجازاته وتضحياته ودفاعه المستميت قولا وفعلا عن الدولة والدستور والديمقراطية والمبادئ العامة الفضلى كالتسامح والعفو والترفع… هناك اليوم نوع من الإحساس بالذنب تجاه الباجي يدفع التونسيين وخاصة منهم الناخبون إلى مراجعة مواقفهم والوقوف في صفه على حساب خصومه ما يقلل بالضرورة من حظوظ الحالمين منهم بالرئاسة فمن هم المعنيون أكثر من غيرهم؟ حظوظ مفقودة يبدو رئيس الجمهورية الأسبق محمد المنصف المرزوقي أكثر المعنيين تضررا فهو لم يترك مناسبة واحدة منذ الحملة الانتخابية لرئاسية 2014 دون التهجم على قايد السبسي الذي كان منافسا له في الدورة الثانية من تلك الرئاسية. وهو لم ينقطع عن التعرض للرئيس الراحل وسياسته وخياراته ومبادراته وحزبه وأنصاره… إلا يوم إعلان الوفاة. ورغم أنه غيّر بوصلته 180 درجة تماهيا ما يتطلبه الوضع فإن حلمه برفع نعش الباجي على كتفه قد لا يقنع غير طائفة قليلة جدا من الناخبين. بلغة المنطق لن يكون للمرزوقي حظ في الانتخابات القادمة لاسيما وقد حسمت النهضة أمرها في عدم ترشيحه (إلى حد عشية أمس تبدو الأولوية حسب القيادي علي العريض لأبناء الحركة ثم لأحد ثلاثة هم الزبيدي أو الشاهد أو بن جعفر). لعنة الباجي قد تصيب أيضا أي مرشح نهضوي ولو بتأثير أقل بما أن للحركة مخزونها الانتخابي الثابت. فجزء كبير من التونسيين يتعاطفون مع الباجي بوصفه حداثيا ومدنيا وقريبا من اللائكية ولن ينسى أنه اختلف مع النهضة حينا ولامها حينا آخر على عدم لحاقها بالمدنية ما يدفع إلى تنشيط «التصويت الفعال» ضد الحركة. تضرر اليسار لن يسلم بعض اليساريين من لعنة الباجي بغض النظر عن موقعهم في اليسار، فحمة الهمامي مثلا (أقصى اليسار) سيصادف ناخبين يعلمون أنه عارض قايد السبسي في كل شيء تقريبا منذ أن جلس على كرسي الرئاسة إلى تاريخ وفاته دون أن يقدم بديلا مقنعا. هذا البديل يعني عكس السائد أو المتوفر والحال أن الناخب بات يعتقد بأن الباجي كان على صواب في جل قراراته ما يقودنا إلى نتيجة واضحة وهي ألا يحلم حمة بصوت أي متحسر على خسارة الرئيس الراحل.حتى محمد عبو (عائلة اليسار الإجتماعي الديمقراطي) فقد لن يغنم شيئا من دموع حرمه سامية التي نزلت صادقة حزنا على وفاة الباجي. فالناخبون لا ينسون أن التيار الديمقراطي تخصص في معارضة الرئيس الراحل لمجرد المعارضة في بعض الأحيان مثلما تخصص في ضرب الدولة ورموزها عكس ما كان يعمل الباجي. وعلى العكس فقد يكون الرحوي (وسط اليسار) أحد اليساريين القلائل الممكن نجاتهم من لعنة الباجي فهو وحزبه الوطد الموحد حاربا من أجل الانضمام إلى الحكومات التي دعا إليها الباجي ولم يتعرضا له بسوء لكن الاستفادة تحتاج الكثير من الجهد لإقناع الناخب وإزالة الخلط لديه. لا عزاء ل «الأبناء» ستكون اللعنة مزلزلة على أبناء الباجي فابنه البيولوجي حافظ يبدو اليوم في مظهر الابن الذي أضر بوالده ودمر حزبه وأفشل حكوماته وأبطل محاولات إخراج البلاد من أزماتها لمجرد ممارسة حقه الدستوري في السياسة. أما ابنه الروحي الأول محسن مرزوق فيبدو ناكرا للجميل رغم اجتهاده في عدم الإساءة قولا أو فعلا للباجي ما يضعف حظوظه الانتخابية لاسيما وأن من يعول على أصواتهم ينتمون إلى شجرة الباجي الانتخابية. السيناريو ذاته ينطبق على رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي ارتفعت أسهمه في وقت سابق على حساب أسهم الباجي… للسياسة أحكامها، فكفة الباجي ثقلت جدا ما يعني تضرر كفة الشاهد الذي من المفترض أن يقرر اليوم ترشحه للرئاسية من عدمه… هي فرصة لاختبار مدى حنكته وحنكة فريقه السياسي فإعلان ترشحه اليوم قد يكون ضربة قاصمة لمستقبله السياسي لأن الأيام التي تفصلنا عن الامتحان الانتخابي لا تكفي لإقناع الناخبين بأنه كان على حق أكثر من الباجي. الزبيدي أكثر المستفيدين لم يقدم وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي ترشحه للرئاسية وإن فعل فسيستفيد كثيرا من «روح» الباجي فهو لدى بعض التونسيين وزير الدفاع الذي حافظ على دور الجيش الرائع في حماية الديمقراطية ومدنية نظام الحكم وتماسك الدولة وحماية الشعب… وهو لدى البعض الآخر من أحسن التصرف يوم وعكة الباجي الصحية الأولى ووضع حدا للمزايدات والاضطراب، وهو لدى طائفة ثالثة الأقرب إلى الباجي ومحل ثقته حتى تاريخ وفاته. رغم هذه المزايا كلها فالأفضل للزبيدي ألا يترشح لأن السياسة تحتاج كثيرا من الدبلوماسية والتنازلات والمهادنات التي لا يقدر عليها.