انتهت المعركة السياسية بوضع «حرب الانتخابات» أوزارها لتنطلق معركة جديدة هي معركة تشكيل الحكومة القادمة ولعل مسارعة التيار الديمقراطي الى اعلان انه سيكون في المعارضة وهو ما لطفه محمد عبو بعد اقل من يوم بالترفيع في سقف شروطه الى الاعلى للقبول بالمشاركة في الحكومة القادمة يؤكد تخوف عديد الاحزاب المعنية بالمشاركة في الحكومة القادمة لان الاستحقاقات الاقتصادية كلها مازلت غير منجزة وهي سبب «الزلزال» السياسي الذي تعيش على وقعه تونس منذ يوم 15 سبتمبر الجاري. الحكومة القادمة سواء كانت حزبية او حكومة كفاءات ستكون بمثابة القابض على الجمر بيديه وبعد خمس سنوات او حتى اقل سيحاسبها الشعب حسابا عسيرا ان لم تحقق تطلعاته في التخفيض من الاسعار وتحسين الطاقة الشرائية وحل معضلات الاقتصاد التي لها تداعيات اجتماعية خطيرة مثل القنابل والتي مست كل العائلات تقريبا في تونس. مساندة مشروطة رغم حديث الامين العام لاتحاد الشغل عن معركة كسر عظام مرتقبة مع الحكومة الجديدة فانه صرح بما صرح به لاسباب سياسية تتعلق بموقف المنظمة النقابية من يوسف الشاهد والذي كان وقت تصريح الطبوبي متصدرا لنوايا التصويت ولا احد كان يعتقد انه سيخسر الرئاسية ثم يخسر التشريعية وانه «سيتسول» الوزارات لحزبه من الفائز الاول في الانتخابات خاصة ان هامش المناورة امامه ضعيف جدا ولا يسمح له بفرض أي شرط للمشاركة في الحكومة القادمة لانه ان تعطل تشكيلها في الاربع الاشهر القادمة سنتوجه مباشرة الى انتخابات سابقة لاوانها وساعتها لن يضمن فوزه بهذا الكم من المقاعد في البرلمان والاهم انه لن يضمن عدم فوز غريمه نبيل القروي وحزبه .. لم يصرح الطبوبي بما صرح به الا لتلك الاسباب والتي انتفت في الفترة القادمة وهو ما يعني ان معركة كسر العظام قد لا تتم بل حتى الظرف السياسي الجديد لتونس لا يسمح بوقوعها في ظل الصعود القوي لقوى اقصى اليمين الديني المتمثلة في ائتلاف الكرامة ومن سيناصرهم من قائمات مستقلة وهي كيانات سياسية صدامية لا نعتقد انها ستتاخر في مواجهة اتحاد الشغل خاصة ان «قرابتها» بروابط حماية الثورة غير خافية على احد كما ان المزاج الشعبي لن يرضى باي تصعيد محتمل بين الحكومة واتحاد الشغل يعمق ازمة البلاد الاقتصادية التي لن يصبر عليها احد في الفترة القادمة لان الصبر نفد بطبعه ولم يبق في الكاس مكان لقطرات اخرى... الا ان اتحاد الشغل لن يمنح الحكومة القادمة صكا على بياض ولن يتنازل عن «ممنوعاته» وهي التفريط في المؤسسات العمومية او عدم تفعيل الاتفاقيات الممضاة مع حكومة الشاهد او عدم المطالبة باي زيادة اخرى اذا لم يتراجع مؤشر الاسعار وتنخفض نسبة التضخم .. على نفس المنوال ستسير منظمات الاعراف خاصة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية بعد تضرر رجال الاعمال من الارتفاع المشط في الجباية وتعطيل الاستثمار بقوانين بالية وتاخر الانطلاق في الاصلاحات الضرورية خاصة تطبيق المصادق عليها منذ سنوات .. كذلك لن يرضى اتحاد الفلاحين ان تم تعطيل صندوق التعويض عن الجوائح ولم تتفعل مطالبه في حماية الفلاح وتحسين ظروف عمله من تمويل وحماية لمسالك التوزيع ليجد ثمرة ما اثمرت اراضيه اموالا. كل هذه الظروف والاكراهات ستضع الحكومة على ريح المشاكل تطوح بها يمينا ويسارا وان لم تراع اتجاه تيارات «الهواء» فستكون كمن يسير عكس التيار مع ما يعنيه ذلك من احتدام للازمة وترفيع في مؤشر التوتر وضياع لوعود كثيرة سالت كالاودية ايام الحملة الانتخابية. غياب المنطق في قانون المالية 2020 في خضم البحث عن التوفيق بين مطالب المنظمات الاجتماعية وواقع الاقتصاد وانتظارات المواطن ستكون الحكومة القادمة تحت «سيف» صندوق النقد الدولي المصر على تفعيل ما تم الاتفاق عليه عند امضاء اتفاقية القرض الممدد سنة 2016 والذي مع كل قسط تزور بعثة منه تونس للوقوف على جدية سير الحكومة على نهج ما اقترحه الصندوق من اصلاحات وان وجدت تونس تجاوبا منه في الفترة السابقة فانه لن يكون اكثر مرونة في الفترة القادمة خاصة ان اخر قسط من القرض الممدد ستناله تونس مفتتح السنة القادمة وستكون مطالبة بتسديد ما عليها اولا اما ثانيا وهو الاهم فانها ستسعى الى الحصول على قرض جديد في مستوى القرض السابق لحاجتها الماسة اليه لتوفير موارد مالية للدولة خاصة ان ميزانية السنة القادمة تم وضع مشروعها وكان مخالفا للمنطق ولا علاقة له بظروف البلاد الاقتصادية ولا بقدراتها المالية اذ ان ما تم تسريبه حول قانون المالية لسنة 2020 يفيد بان الحكومة قررت الترفيع في ميزانية الدولة بنسبة 15 بالمائة مقارنة بميزانية 2019 وهي نسبة تفيد كل المؤشرات بأنها نسبة النمو المتوقع تحقيقها السنة المقبلة فالحكومة واصلت سياسة الهروب الى الامام وعوض ان تخفض الميزانية كما تفعل أي دولة تمر بظروف صعبة اقتصاديا فانها رفعت فيها لتلامس مستوى 47 مليار دينار وهو حجم لا يناسب الناتج المحلي الخام والادهى والامر ان ميزانية الدولة لم تراع نسبة البطالة المرتفعة وقررت مواصلة غلق باب الانتدابات في الوظيفة العمومية والقطاع العام عموما كما ان 85 بالمائة من الميزانية ستوجه نحو النفقات الجارية واهمها كتلة الأجور في الوظيفة العمومية والمقدرة ب 19 مليار دينار أي ما مثل 15 % من الناتج المحلي الخام، بالإضافة إلى خدمة الدين العمومي وهي في ارتفاع مستمر ومن المتوقع أن تكون في حدود 10 إلى 11 مليار دينار خلال سنة 2020 وطبعا لن تتغير الظروف بين السنة القادمة والسنوات السابقة ولن تتخلص تونس مما علق بها من ركود اقتصادي كما لن تتغير عقلية المواطن ولن تتطور لديه ثقافة العمل وسيواصل الانتاج تراجعه ولن تتحسن الانتاجية وهو ما سيدفع الدولة الى الاستدانة سواء من صندوق النقد الدولي او من البنك العالمي او من باقي المؤسسات المالية القارية والاقليمية وايضا من البنوك الداخلية هذا دون نسيان حتمية خروجها الى السوق المالية العالمية لتعبئة سندات مالية توفر لها مبالغ اضافية وكل خروج ستكون كلفته باهضة في ظل تواصل الازمة الاقتصادية. الحلول موجودة .. ان توفرت الارادة لا خيار امام الحكومة الجديدة التي سترث وضعية صعبة للغاية وتطلعات كبيرة من المواطنين ومن المنظمات الاجتماعية ومن شركائها الاقتصاديين ومقرضيها وهو ما يحتم على الحكومة القادمة السير في نهج التقشف وتعديل قانون المالية 2020 بقانون تكميلي او في البرلمان قبل المصادقة عليه للتخفيض من عديد النفقات التي لا تفيد في شيء ولعل اهم خطوة على الحكومة الجديدة القيام بها هي فتح باب التفاوض مع اتحاد الشغل حول التفريط في المؤسسات العمومية بإقناعه او بالاستماع الى مقترحاته والسعي الى تقريب الفجوة عبر اشراكه في إصلاح المؤسسات التي تمر بوضعيات مالية صعبة او التي افلست وصارت تشكل عبءا على الدولة خاصة ان المنظمة النقابية ابدت تفهما كبيرا ورصانة في رؤاها السياسية ولا يمكن للنقاش المعمق والهادئ ان يؤدي الى الاصطدام معها بل هي مستعدة في السياق السياسي الجديد الى تغيير لون خطها الأحمر الذي وضعته امام التفريط في المؤسسات العمومية الى خط برتقالي ان وجدت مقترحاتها للاصلاح الضوء الاخضر من الحكومة فرؤية الاتحاد ليست عدمية وهو لا يتصلب من اجل التصلب بل هو محمول حملا الى حماية منظوريه لانها من صميم واجبه نحوهم كما ان التفريط دون شروط واضحة ومقاييس تحمي المواطن يعني دفعا للبلاد الى أتون محرقة خطيرة ستاتي على الاخضر واليابس وهو ما يعطي مشروعية لرفض الاتحاد التفريط الاعتباطي في المؤسسات العمومية ويقترح اصلاحها اولا وهنا قد يتم جسر الهوة بينه وبين الحكومة ان تم الاتفاق على تفريط جزئي وليس كليا بتمكين القطاع الخاص من موطئ قدم فيها ليس بالبيع بل بفتح رأس مالها في إطار شراكة بين القطاعين الحكومي والخاص يجعل الدولة رقيبة على المؤسسة ويضمن لها امكانية الانتعاش وتشريك عمالها في صياغة مستقبلها عبر استشارة واسعة قد ترفع الحرج عن اتحاد الشغل في المستقبل حول كلفة التفريط فيها اجتماعيا خاصة أن منظمة الأعراف قامت بسبر اراء ل1600 عينة تفوق أعمارهم ال18 سنة حول التفويت في المؤسسات الحكومية أفضى إلى موافقة 51.8 بالمائة من المستجوبين على بيع مؤسسات عمومية غير استراتيجية بطريقة شفافة، على أن يقع استغلال مواردها في صناديق التقاعد والحيطة الاجتماعية والتعليم والصحة وتخفيض مديونية البلاد وبالامكان الوصول الى اتفاق مع الاتحاد حول اصلاح المؤسسات العمومية المنهكة بعدم التفويت فيها وتطبيق ما يراه مناسبا من اصلاحات لتحسين اوضاعها ثم تقييمها بعد خمس سنوات من تنفيذ تلك الإصلاحات فان فشلت لابد من خوصصتها . ان الجميع على اتفاق على إنّ المالية العمومية والاقتصاد في تونس باتا غير قادرين على تحمّل مزيدا من التأزّم وأنّ الوقت حان للإسراع في الإصلاحات الكبرى والتدارك ممكن ان توفرت العزيمة وتم تجنب سيناريوهات الارباك او اعادة استدعاء «النعرات الايديولوجية» التي يبدو انها في طريقها الى الزوال وهي بشرى خير للحكومة وايضا لاتحاد الشغل وهو ما قد يمكن من ابرام عقد اجتماعي فعال وحقيقي.