تقول اليوم بعض الأصوات في العالم العربي "أن تونس تغرّد خارج السرب العربي" هذا صحيح. لماذا؟ لأن تونس تنجح للمرة الثالثة في الخروج عن السرب العربي المتقوقع على نفسه وتقاليده السياسية البالية وتنتخب رئيسا للمرة الثالثة بعد الثورة بطريقة ديمقراطية تضاهي أجمل الديمقراطيات في العالم. وبذلك فهي تخرج من حضيرة العرب وتدخل في نادي الدول الديمقراطية الكبرى. فكيف حصل هذا؟ ما هي العوامل الموضوعية التي ساعدت الأمة التونسية على تحقيق هذا الإنجاز التاريخي المذهل؟ كيف تحولت تونس في زمن قياسي من نظام تسلطي مستبد إلى دولة ديمقراطية؟ دولة قانون ومؤسسات؟ كيف اختار الشعب التونسي بكل حرية وللمرة الثالثة رئيسا للبلاد من وسط الشعب ومن خيرة النخب القيادية؟ فهذه تُعدُّ مخالفة جريئة للعادات والتقاليد السياسية العربية، مما دفع البعض للمطالبة بطرد تونس من الجامعة العربية، وكان ذلك من باب الهزل والمزاح طبعا. طيلة التسع سنوات الماضية وتونس تعيش حالة من المخاض السياسي في نهج التحول المستمر نحو الاستقرار الإجتماعي والتقدم الحضاري والتنمية المستدامة، كما أن تونس والتونسيين عرفوا كيف تُفَكُّ شفرة الدخول إلى المستقبل في حين أن بقية الدول العربية التي قامت شعوبها بالثورة أسوة بالشعب التونسي مثل مصر وليبيا واليمن وسوريا مازالت تتخبط في مستنقعات الثورة المضادة حتى الآن، وهي كما قال فيها الشاعر نزار قباني: "والعالم العربي إمّا نعجة *** مذبوحة أو حاكم قصّابُ " والعالم العربيُّ يرهن سيفَه *** وحكاية الشرف الرفيع سرابُ والناس قبل النفط أو من بعده *** مستنزفون، فسادةٌ ودوابُ هل في العيون التونسية شاطئٌ *** ترتاحُ فوق رماله الأعصابُ؟ والعجيب أن نزار قباني في هذه القصيدة كان يطلب المشورة من تونس لخلاص العرب، هذا في سنة 1980 أي قبل ثورة 2011 بثلاثين سنة، وكأنه كان يعلم أن تونس هي التي ستعطي درسا للعرب بطريقة خلاصها هي الأولى، نعم طلب المشورة من تونس ولم يطلبها من مصر التي كانت هي الرائدة والقاطرة التي تجرعربات العالم العربي خلفها، مصر التي قال في قصيدته تلك أنها تهوَّدت وكأنه كان يستشرف المستقبل ويستعجل شرارة التغيير حين يقول: يا تونس الخضراء هذا عالم *** يثري به الأمّي والنصابُ يا تونس الخضراء كيف خلاصنا *** لم يبق من كتب السماء كتابُ ماتت خيول بني أميّة كلها *** خجلا وظلّ الصرف والإعراب من ذا يصدِّق أنّ مصرَ تهوّدتْ *** فمُقام سيدنا الحسين يبابُ ما هذه مصر فإن صلاتها *** عبريةٌ وإمامها كذّابُ هكذا شَعُرَ نزار قباني بحسه وحدسه الشاعري أن تونس هي التي تملك مفتاح الخلاص، في حين كان الجميع يظن أن المفتاح لدى مصر، وقد صدق حدسه وتحققت نبوءته، فهاهي تونس تستبق الجميع وتصنع معجزتها بإرادة شعبها وتلهم جيرانها العرب للقيام بالثورة ضد أنظمتها القمعية المستبدة أولا، وها هي تلهم إخوتها العرب كيفية التحول الديمقراطي الناجح والسليم، وهنا يتبادر للأذهان هذا السؤال الهام : كيف فعلت ذلك تونس ؟لمَ لم تنجح في تونس الثورة المضادة المدعومة من أزلام النظام البائد وأموالهم الطائلة ؟ وهذا السؤال الثاني خصوصا يجب التوقف أمامه مليا. يحاول الباحثون باستمرار دراسة الظواهر الاجتماعية للبحث عن عواملها وأسبابها وخفايا أسرارها، والباحثون المحترفون يعلمون أن من الصعب الحديث عن عامل واحد محدد لظاهرة ما، لأن الاعتقاد بأنه توجد ظواهر مركبة من عامل واحد هو خطأ منهجي. لذلك نجد دائما لكل ظاهرة مجموعة من العوامل التي صنعت الظاهرة. وهناك أيضا شبكة ظروف تساهم في إنجاح هذا العامل أو ذاك، لكن العقل يقول إنه من بين كل العوامل التي تصنع الظاهرة لابد أن يكون هناك عامل "رئيس"وليس وحيد بين العوامل الأخرى..فما هو العامل الرئيس الذي صنع التحول الديمقراطي الناجح في تونس يا ترى؟ الشعب التونسي هو أحد الشعوب العربية القليلة التي تحظى بمستوى جيد من التعليم والثقافة والتحضر، ولذلك نجد أن الشعب التونسي هو على درجة محترمة من الوعي السياسي والنقابي والاجتماعي بالنسبة إلى الشعوب العربية الأخرى وهذا ليس إطراء أو فخرا، بل حقيقة يعترف بها العالم بأسره، والشعب التونسي اختلط كثيرا بالشعوب الأوروبية التي هي أقرب له جغرافيا من شعوب الشرق العربية والسبب الوحيد في ذلك هو الموقع الجغرافي للبلاد، ولا شك أن هذا الاختلاط والتقارب مع الغرب أكسبه وعيه بحقوقه وحرياته. العامل الأول والرئيس إذا هو وعي الشعب التونسي وحسه السياسي. أما العامل الثاني الذي يبرز للعيان هو محدودية بل انعدام تأثير الجيش الوطني على الحياة السياسية بالبلاد، وهذه العقيدة رسخها في تونس أول رئيس للجمهورية منذ بداية الإستقلال وهو الزعيم الحبيب بورقيبة الذي حرص على أن يكون الجيش في ثكناته لا شغل له بالسياسة سوى الدفاع عن حدود الوطن وحماية ترابه. ذلك أن الجيش التونسي لم يصنع الثورة مثلما فعل الجيش الجزائري أو الجيش المصري أو اليمني، وليست لديه عقيدة "أنا الذي صنع الثورة وانا الذي يجب أن يحكم البلاد"... العامل الثالث الذي ساعد تونس كثيرا في التغلب على الثورة المضادة هو تجانس الشعب التونسي طائفيا ومذهبيا وقبليا.. فلا يوجد في تونس طوائف دينية إطلاقا، كل الشعب التونسي أو 99 % منه هم مسلمون سنة على المذهب المالكي. أما الجهوية والقبلية فقد قضى عليهما الرئيس الراحل بورقيبة وحاربهما طيلة مدة حكمه خوفا من تفكك اللحمة الوطنية لدى الشعب الواحد. العامل الرابع والأخير في نجاح المسار الديمقراطي التونسي وفشل الثورة المضادة هو في رأيي يتمثل في نضج العقل الديني أو الإسلاموي لدى التونسيين، وكذلك نضح التفكير الديني لدى الحركة الإسلامية في تونس "النهضة" رغم اختلافي معها في عديد المبادئ والثوابت السياسية، حيث أن قياداتها كانت واعية بحجم المؤامرة وطبيعة اللحظة التاريخية الحساسة التي تمرّ بها تونس ففوتوا على المتآمرين فرصة نجاح الثورة المضادة عندما تنازلوا عن ذلك الفصل عند صياغة الدستور الذي يقول "أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع" واكتفوا بالقول أن الإسلام هو دين الدولة التونسية وبذلك أسقطوا مخططات أصحاب الثورة المضادة الذين كان هدفهم تحويل الصراع الحزبي من الساحة السياسية إلى الساحة الدينية أو العقائدية لتزداد الأمور تأزما وتعقدا، وهذا التنازل يحسب للنهضة كوعي سياسي ونضج ديني لأن حقيقة الصراع الحزبي هو صراع من أجل الديمقراطية. وفي الختام أقول للشاعر المرحوم نزار قباني، ها هي تونس تحقق ما تنبأت لها به، ها هي قد وجدت نفسها وأشعلت شهابا في وسط الظلام العربي القاتم ويوجد في صدرها الآن مكان ومتاب لكل من أراد أن يحذو حذوها ويضع مصالح وطنه فوق مصالحه الشخصية الضيقة. هذه هي قرطاجة التي قلت لها: أنا يا صديقتي متعب بعروبتي *** فهل العروبة لعنة وعقاب؟ يا تونس الخضراء كأسي علقم *** أعلى الهزيمة تُشربُ الأنخابُ أنا متعب ودفاتري تعبت معي *** هل للدفاتر يا ترى أعصابُ؟ فلربما تجد العروبة نفسها *** ويضيء في قلب الظلام شهابُ قرطاجة، قرطاجة، قرطاجة *** هل لي لصدرك رجعة ومتابُ؟ لا تغضبي مني إذا غلب الهوى*** إن الهوى في طبعه غلابُ... الأديب الشاعر محمد المثلوثي (القلعة الكبرى في 25 أكتوبر 2019)