"فرنسا غبر قابلة للحكم"، هذا ما أجمعت عليه كبرى الصحف الفرنسية بعد نتائج الانتخابات التشريعية التي خسر فيها الرئيس ايمانويل ماكرون الأغلبية مقابل صعود تاريخي لليمين المتطرّف بقيادة مارين لوبان واليسار بقيادة ميلونشون. وأفرزت الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية أول أمس مشهدا سياسيا عصيا على الحكم قد يدخل البلاد في دوامة سياسية وفي أزمة عميقة هي آخر ما تنتظره فرنسا في ظلّ المشهد الاقليمي والدولي المليء بالتحدّيات. فمع خسارة ماكرون الفائز بالانتخابات الرئيسية للأغلبية البرلمانية (245 مقعدا) و صعود اليمين المتطرّف عبر فوزه بمقاعد (89 مقعدا) تخوّل له تشكيل كتلة للمرة الأولى منذ أكثر من 35 عامًا، اضافة الى حصول اليسار على 135 مقعدا، باتت فرنسا أمام مفترق طرق. وأصبح أمام ماكرون الآن عديد الخيارات لكن يبقى دائما أحلاها مر، في ظلّ الانقسام السياسي الذي تعيشه البلاد وحتى النخبة السياسية وهو تجسّد في حالة التشرذم التي أنتجتها الانتخابات. صحيح أن الأحزاب المعارضة عبّرت عن مسؤوليتها في لعب دور إيجابي وليس دور معرقل لعمل الحكومة، لكن أي تحالف بالنسبة لها سيكون له ثمن وتنازلات من جانب الرئيس ماكرون. وسيكون الرئيس ماكرون مجبرا فعلا على عقد تحالف مع قوة ما تمنحه الأغلبية، لكن يبقى السؤال هو مدى قبوله بتنازلات لأي طرف يقبل التحالف معه، فمثلا من المنتظر أن يشترط ميلونشون (يسار) تولّي رئاسة الحكومة. هذا الأمر يستبعد أن يقبل به ماكرون، لأنه سيكون مقيّد اليدين في ظلّ هذا التحالف و سيضعفه أكثر مما يقوّيه و ستتبعه عديد التنازلات فيما يخصّ الإصلاحات التي ينوي الرئيس تمريرها. وفي ظلّ استحالة التحالف مع اليمين المتطرّف، فإن ماكرون قد يجد ضالّته في اليمين التقليدي الذي تحصّل على 60 مقعدا و سيمنح التحالف معه أغلبية مطلقة مريحة لتمرير الاصلاحات. فبعد إمعانه (ماكرون) في تفريغ الحزب الاشتراكي وحزب الجمهوريين يجد نفسه اليوم أمام حل وحيد وهو إعادة هؤلاء الذين سحقهم خلال رئاسته الأولى الى الحلبة لأنهم باتت لهم اليد الطولى. أما إذا فشل هذا الخيار أيضا فسيكون على ماكرون وفرنسا عموما العودة الى تجربة "التعايش السياسي"، باعتبار أن البلاد عاشت تجارب مشابهة سابقا حيث خسر الرئيس الانتخابات التشريعية أو لم يتحصّل على أغلبية كما هو الحال اليوم. فخلال "الجمهورية الخامسة" عرفت فرنسا تجربة ذلك "التعايش"، بين رئيس يساري وحكومة يمينية أو العكس، ثلاث مرات، المرة الأولى ما بين 1986 1988 حيث ترأس اليميني الديغولي جاك شيراك حكومة في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران إثر فوز اليمين في الانتخابات التشريعية. وكانت المرة الثانية ما بين 1993 1995 حيث تعايشت حكومة يمينية برئاسة إدوار بالادور مع الرئيس فرنسوا ميتران بعد انقلاب البرلمان لصالح اليمين. أما المرة الثالثة فقد كانت ما بين 1997 2002 حيث ذاق الرئيس اليميني جاك شيراك مرارة "التعايش" مع حكومة يسارية برئاسة الاشتراكي ليونيل جوسبان إثر فوز اليسار في انتخابات مبكرة دعا إليها شيراك واعتبرت خطيئة سياسية كبرى لم يكن مضطرا إليها أتت لصالح خصومه. في كل الحالات سيكون ماكرون وحركته السياسية أمام اختبار صعب ليس له فحسب وإنما لكل فرنسا في ظلّ الأزمات الداخلية التي تعصف بالبلاد بالإضافة الى الأزمات الأوروبية المتزايدة. بدرالدّين السّيّاري