معهد باستور: تسجيل حالة وفاة و4 اصابات بداء الكلب منذ بداية 2024    المدير العام للديوانة في زيارة تفقد لتطاوين    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    الإعلان عن نتائج بحث علمي حول تيبّس ثمار الدلاع .. التفاصيل    زلزال بقوة 5.5 درجة يضرب هذه المنطقة..    قوات الاحتلال الإسرائيلية تقتحم مدينة نابلس..#خبر_عاجل    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    بطولة انقلترا : مانشستر سيتي يتخطى برايتون برباعية نظيفة    البطولة الايطالية : روما يعزز آماله بالتأهل لرابطة الأبطال الأوروبية    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    إجراء أول اختبار لدواء يتصدى لعدة أنواع من السرطان    تواصل نقص الأدوية في الصيدليات التونسية    رحلة بحرية على متنها 5500 سائح ترسو بميناء حلق الوادي    طقس الجمعة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 34 درجة    مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح    "تيك توك" تفضل الإغلاق في أميركا إذا فشلت الخيارات القانونية    ماكرون: هناك احتمال أن تموت أوروبا    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    هذا فحوى لقاء رئيس الجمهورية بمحافظ البنك المركزي..    سوسة.. دعوة المتضررين من عمليات "براكاجات" الى التوجه لإقليم الأمن للتعرّف على المعتدين    اليابان تُجْهِزُ على حلم قطر في بلوغ أولمبياد باريس    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    زيتونة.. لهذه الاسباب تم التحري مع الممثل القانوني لإذاعة ومقدمة برنامج    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي تتراجع بنسبة 3ر17 بالمائة خلال الثلاثي الأول من سنة 2024    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تكريم فريق مولودية بوسالم للكرة الطائرة بعد بلوغه الدور النهائي لبطولة إفريقيا للأندية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث عدد الباحثين    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    سعر "العلّوش" يصل الى 2000 دينار في هذه الولاية!!    رئيس الجمهورية يتسلّم أوراق اعتماد سفير تونس باندونيسيا    قرابة مليون خبزة يقع تبذيرها يوميا في تونس!!    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    أنس جابر تستهل اليوم المشوار في بطولة مدريد للماسترز    عاجل: غرق مركب صيد على متنه بحّارة في المهدية..    سفينة حربية يونانية تعترض سبيل طائرتين مسيرتين للحوثيين في البحر الأحمر..#خبر_عاجل    كاس رابطة ابطال افريقيا (اياب نصف النهائي- صان داونز -الترجي الرياضي) : الترجي على مرمى 90 دقيقة من النهائي    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جاك شيراك في الجزء الأول من مذكراته : بشير البكر
نشر في الفجر نيوز يوم 10 - 11 - 2009

انتظر الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك سنتين ونصف بعد انتهاء رئاسته كي يُخرج للعلن مذكراته . وبالفعل كان الوقت مناسباً جداً حيث إن شعبيته لا تزال في الذروة، فما يزيد على 80 في المائة من الفرنسيين يكنّون له الكثير من الود والتعاطف، والدليل أن مذكراته نفدت في الكثير من المكتبات وأماكن بيع الكتاب . كما أن الفرصة مواتية لتداول الكتاب وتحقيق نجاح لا نظير له، خصوصاً وأن فرنسا تنتظر، هذه الأيام، إحالة شيراك الى المحاكمة في سابقة تاريخية، وذلك بتهمة اسناد نحو 20 وظيفة وهمية إلى بعض مؤيديه، حين كان يتولى منصب عمدة باريس بين العامين 1977 و1995 .
كنت سأنضم لثورة الطلاب لو كنت في مثل أعمارهم
نحن أمام الجزء الأول من مذكرات الرئيس الفرنسي السابق التي صدرت في منتصف الاسبوع الماضي عن دار “نيل” في باريس، ووقعها في احتفال كبير قبل أيام، وهي تغطي الفترة الأولى من حياته حتى تاريخ سنة ،1995 أي وصوله إلى “الإليزيه” . وفي بداية الكتاب نعرف أن جد شيراك، لويس شيراك، الوحيد من العائلة الذي مارس السياسة، وقد كان ماسونياً، وعضواً نشيطاً في الحزب الراديكالي الاشتراكي، الأمر الذي يفسر الكثير من مواقف الرجل لاحقا .
فيما يخص بداياته السياسية، يعترف أن “تأثير جورج بومبيدو كان أكبر، على المستوى الشخصي وعلى مستوى تكويني السياسي، أكثر من تأثير الجنرال ديغول، لأن معرفتي به كانت أكبر” . ويقول انه “كان رجلا ذا ثقافة استثنائية وكامل الأخلاق وصرامة فكرية متفردة . وكان في نظري يرمز إلى فرنسا، تماماً كما الجنرال ديغول، وفي نظري فإن نظرتيهما الى فرنسا لم تكونا متعارضتين”، “بل إن نظرة بومبيدو كانت، من دون شك، أكثر حسماً وأكثر فورية وأكثر حميمية، منغمسة في القيم الفلاحية وهي في آن واحد متجذرة في التقاليد ومنفتحة، بشكل جوهري، على الحداثة بكل أشكالها” . ويستعرض بداياته السياسية تحت جناح بومبيدو، والتي كانت تتيح له “أن يلتقي معظم الوزراء في تلك الفترة، والوزير الذي كان يلتقيه بشكل مستمر هو أندري مالرو” . ومن هنا نسج علاقات رائعة مع هذا الروائي الكبير، والذي دخل التاريخ باعتباره من أهم وزراء الثقافة في تاريخ فرنسا (خلال حكم ديغول)، ولكن العلاقات لم تكن علاقات تبعيّة، كان ثمة نقاش وجدل بين الرجلين . “لم أكن أتردد في لومه على جوره في تجارة الأعمال الفنية التي مارسَها في شبابه، في الهند الصينية، وكنت هنا أشكك في القدرة الجمالية التي كان ينسبها لنفسه . كانت انتقاداتي تثير حنقه وتجعله يغرق في غضب بالكاد يخفيه، من دون أن يضع حداً لنقاشاتنا . وعلى الرغم من أني لم آخذ مأخذ الجد كتابه “المتحف المتخيل” فلم أكن أستطيع سوى أن أفتتن بهذا الرجل، الذي كنت أحيانا أقلد حركاته . كنت معجبا بمؤلف كتاب “الشرط الإنساني” وبالتزامه السياسي ضد الفاشية والنظام الكولونيالي وأيضا بحسّ العدل والأخُوّة لديه”، ويتحدث شيراك عن أولى ذكرياته السياسية، وكانت أيضا، بالفعل، مع أندري مالرو . وكان الأمر يتعلق بحملة انتخابية، وكان مالرو يترأس تجمعا لدعم مرشح الأغلبية، ولكن الجمهور كان معادياً ولم يخْل من تصفير وهرج، ولكن مالرو نجح مع ذلك في إكمال خطابه “في هذا اليوم، أدركتُ، بشكل جيد، بفضل مارلو، كل ما يمكن أن يوجد من الحس الروائيّ في المغامرة السياسية” .
ويتحدث الرئيس شيراك عن الثورة الطلابية لسنة ،1968 وكان حينها في الحكومة الفرنسية، فلا يبدي أي حقد: “لم أكن أحسّ، إطلاقا، بمعارضة التمرد الطلابي، باعتباره تمردا، ولم تكن تصدمني مطالب الشباب الذي كان يتطلع إلى قدْر أكبر من حرية الأخلاق . الرغبة في التغيير شيء طبيعي لدى الشباب، كما حاولت أن أشرحه لزملائي في الحكومة . وما من شك، في أني كنت سأنضم إلى الطلبة لو كنت في عمرهم . ولكني كنت في موقع آخر، ومن هنا فقد عملتُ قبل كل شيء، بطلب من جورج بومبيدو، على محاولة تجنب انفجار اجتماعي خطير ويصعب التحكم فيه” .
درس ديغولي
لم يشكّ شيراك ابدا في تحمل المسؤولية الكبرى في فرنسا بعد انسحاب الجنرال ديغول . ولكن الكثيرين يشكّكون في ولاء بومبيدو للديغولية . غير أن شيراك ينقل أنّ بومبيدو كان يرد على من يسألونه عن تصوّره للديغولية بقول لا يتغيّر: “إنها تصرّف إزاء الشدائد”، ويضيف: “الديغولية، إن عن مزاج وعن قناعة، ترفض التأقلم مع الفشل والمصائب والقدرية . يحرّكها وعيٌ تاريخ للحدث . إنه رجل تشدّد ووفاء”، ويكشف الرئيس شيراك عن بدايات الصراع مع الرئيس الاسبق فاليري جيسكار ديستان، وهي بدايات تعود إلى فترة مبكرة، أي إلى سنة 1969 . وذلك بعد فوز بومبيدو في يونيو/حزيران 1969 حيث إن وزير المالية الفرنسي الجديد، جيسكار ديستان، أراد أن يقلّم من أظافر شيراك، الذي كان وزيرا للميزانية “إن بقائي في وزارة الميزانية، كان ضد رغبته، وكان مصمّما على الحد من امتيازاتي” .
يبدي شيراك صدقاً واضحاً حين يتحدث عن الجنرال ديغول وعن جورج بومبيدو . “بعد الجنرال ديغول الذي أعاد وضع فرنسا في محفل القوى السياسية الدولية، كان بومبيدو مهندس لدولة فرنسا تمتلك كل الأوراق الرابحة التي تعني أمّة كبيرة: الاقتصاد والصناعة والتطور التجاري والبحث العلمي والابتكار والإشعاع الثقافي . وعند اختفاء بومبيدو، وكانت فترة “الثلاثين (ثلاثين سنة) المجيدة” بصدد الانتهاء، ترك من ورائه فرنسا قوية وصلبة” .
يتحدث شيراك عن بومبيدو، وكأنه يخاطب فاليري جيسار ديستان: “كانت لجورج بومبيدو عبقرية الصداقة . كانت الحياة تجد معناها، بالنسبة له، في نظر الآخرين، وفي الأهمية التي تحملها تجاههم، وفي اليد التي نمدّها لهم . كان يمنحنا الرغبة في أن نكون الأفضل” .
التنافس سيكون على أشدّه بين الزعامات اليمينية: جاك شابان ديلماس وفاليري جيسكار ديستان . في البداية كان موقف جاك شيراك، هو البحث عن شخص توافقي ثالث، متمثلا في شخص رئيس الوزراء بيير ميسمير، خصوصا وأن الصراع بين ديلماس وديستان كان ضارا لليمين، وأيضا لأن ديلماس لم ينتظر انتهاء الحداد كي يعلن طموحه السياسي . ولكن موقف شيراك تم تكنيسه على الفور .
وهنا سيتخذ الرئيس شيراك قرارا سيعتبر “خيانة”، عند الديغوليين، وسيكون فاتحة لخيانات كبيرة قادمة . ولكن الأمر سيكون عن قناعة كما يعترف شيراك: “لم أكن أتصور أن ديلماس، الذي كان يمثل صورة رجل من الماضي على الرغم من مشروعه عن “مجتمع جديد”، له حظوظٌ للفوز ضد فاليري ديسكار ديستان وفرانسوا ميتران، اللذين كانا، معا، وكل على طريقته، يجسدان التغيير الذي يتطلع إليه الفرنسيون” .
فاز ديستان، وأعلن تعيين شيراك رئيسا للوزراء، على الرغم من تردد شيراك . لقد كان انتصار ديستان يعني أن “الديغولية خسرت الإليزيه لأول مرة منذ سنة ،1958 وبعد تعيينه رئيسا للوزراء أولا، تلقى شيراك دعوة من أرملة بومبيدو، إلى بيتها، وقالت له إنها في حاجة إلى رؤيته وفي حاجة إلى مودته، أيضا” . ربما كانت تريد أن تُفهمني في هذا المساء أنني أصبحتُ، في نظرها، الوريث السياسي لجورج بومبيدو” .
من هنا بدأت الصراعات بين الرجلين . بين ثقافتين للفعل السياسي، بين رؤيتين لتحديث فرنسا .
ينسى الكثيرون أن شيراك، وهو يتقلد منصب رئاسة الحكومة، سنة ،1974 عاش فترات تاريخية مهمة . “في سنة ،1974 كنت أول رئيس للحكومة الفرنسية الذي يواجه تأثير الصدمة البترولية التي حدثت في العام الماضي”، ويقول “لقد أصبح واضحاً، من الآن فصاعدا، أننا لن نجد البترول والمواد الأولية الني نحتاجها متوفرة بشكل كبير وبأثمان منخفضة . وفي المقابل فإن للطاقة الذرية ومن دون شك أشكالا جديدة أخرى من الطاقة، ستساعد على انبثاق أمم على مستوى عال من التنمية” .
في سنة 1976 بدأت المشاكل تنخر رأس الهرم الفرنسي، بين الرئيس ديستان ورئيس حكومته، وكان يبدو أن تصوّر كليهما لممارسة السلطة كان مختلفا . كان ديستان يصنع جمهورية فرنسية جديدة تقطع مع الماضي، وكان شيراك يتحدث عن الإرث الديغولي والبومبيدي . ومن هنا قرر تقديم استقالته .
وهو يرى أن ديستان أصدر الكثير من القرارات التي كانت تتعارض مع الفكر السياسي الديغولي: “قام بإلغاء احتفالات 8 مايو/أيار كما أنه تجرأ على رغبته في تغيير النشيد الوطني الفرنسي، كما أن تصرفاته الميديوية كانت تثير الحنق، ومن بينها دعوة الكناسين لتناول الإفطار في الإليزيه، أو التوجه إلى فرنسيين فقراء، تحت أضواء الكاميرات ( . . .) كنت أرى في الأمر نوعا من الديماغوجية . كنت أرى فيها قُربا من الناس، وهو قرب واجهات، وليس إرادة حقيقية في تنظيم مجتمع أكثر عدلا وأكثر إنسانية” .
الاستقالة كانت لعبة ذكية من شيراك . كان يخاف أن تستهلكه السياسة وتتعبه، كما أنه كان يرى لنفسه قدَرا أكبر . وجاءت الفرصة لتأسيس حزب سياسي، الغرضُ منه هو اكتساح السلطة، لا غير . وكان ينطلق من فكرة أن الحزب يجب أن يكون تابعا له . ومن هنا جاء تأسيس حزب التجمع من أجل الجمهورية” (RPR)، الذي سيحمله ذات يوم إلى السلطة .
وفي يناير/كانون الثاني من سنة 1977 نجح هذا الحزب، في أول إنجاز له، في تتويج جاك شيراك عمدة على باريس، أي الطريق السالكة إلى الإليزيه، وهي طريق مستقيمة للمجد السياسي، جعلت ملك المغرب الراحل الحسن الثاني، يقول مرة، وهو على مائدة شيراك في بلدية باريس، “لو لم أكن ملكا لتمنيتُ أن أكون عمدة لمدينة باريس” .
يصف شيراك صعوده إلى بلدية باريس: “حين اجتزتُ عتبة قصر البلدية، جاءني شعورٌ، مصحوب بارتياح، شعور أنه لأول مرة في حياتي لن أكون مساعد أحد”، وكانت فترة ترأسه لبلدية باريس فرصة لتكريس نفسه زعيما لا يمكن القفز فوقه أو استثناؤه . كان أسدا في عرينه . ويتذكر أشياء كثيرة أنجزها أو عاشها في باريس، في فصل ممتع بعنوان: “طموح من أجل باريس”، ومن بينها: استقباله في يونيو/حزيران 1978 لليوبولد سيدار سينغور: “منحني مجيئُه فرصة الاحتفال بإحدى الوجوه النبيلة للقارة الإفريقية وللبشرية جمعاء . ومن خلاله، وهو الذي أطلق خلال سنوات الثلاثينات، حركة إعادة الاعتبار لثقافة كان يحتقرها الغرب، حرصتُ قبل كل شيء على تكريم إفريقيا . هذه الإفريقيا، التي كُشِفت لي روحُها، مثلها مثل آسيا، في شبابي، ليس عن طريق السياسة، بل عن طريق الفنّ” .
يكتب شيراك أشياء جميلة عن سينغور، قد لا نجدها، بالضرورة عند خلفه الرئيس نيكولا ساركوزي، كما أنه يتحدث بإكبار عن زعيم إفريقي آخر، وهو هوفويت بوانيي، رئيس ساحل العاج الأسبق . كما أنه لا ينسى الزيارة التاريخية للبابا يوحنا بولس الثاني للعاصمة الفرنسية .
لقاء ميتران
ثم يصل شيراك إلى انتخابات سنة 1981 (ويسميها منعطف 1981) وصعود الاشتراكي فرانسوا ميتران إلى الإليزيه . ويبدأ المشكل مع ديستان من إعلان شيراك، في 3 فبراير/شباط ،1981 عن رغبته في الترشح للرئاسيات . ويعترف أنه لم يتردد في إعلان ترشحه على الرغم من تردد بعض المقربين منه، وعلى رأسهم إدوارد بالادير(الخائن الآخر)، الذي نصحه بترك كل الحظوظ لفوز مرشح اليمين . ويرى أن أخطاء ديستان جعلت أعضاء حزب “التجمع من أجل الجمهورية” في اختلاف عميق مع ديستان . ويقول “كنت أوجه نصائح إلى الرئيس ديستان، أثناء لقاءاتنا العديدة، ولكن من دون جدوى . كنت أحذّره: “لا يجب جرح حيوان . يتوجب إما قتله أو سحقه . “أو كنت أذكرّه بهذا المثل العربي، الذي لم يكن يأخذه مأخذ الجد: “لا يجب دفع القط إلى الزاوية”، وفي أكتوبر/تشرين الأول من سنة 1980 التقى شيراك بفرانسوا ميتران: “لم أكن أعرفه شخصيا، وكانت الفكرة العامة عنه هي أنه رجل بلا قلب ولا وازع وأنه ماكيافيلي . بومبيدو لم يكن يحبه وحذّرني منه باعتباره “مغامرا”، من وجهة نظر سياسي، كان ميتران قبل كل شيء هو التجسيد لكل ما أحاربه: ليس اليسار الإنسانوي الذي لم أبتعد عنه أبدا، بل اليسار الأيديولوجي”، ويعترف أنه بنصيحة من إديث كريسون، وباتفاق مشترك بيننا، قررنا أن نتطرق، رأسا لرأس، لوضعية البلد وللاستحقاقات الانتخابية القادمة . ويكشف أن الرئيس متيران حذره من أي انتصار لديستان سيكون كارثيا على حزب التجمع من أجل الجمهورية وعلى فرنسا . وخلافا للكثيرين الذين يرون أماكن ظل في موقفه سنة ،1981 فشيراك يعترف صراحة بالخيار الذي أقبل عليه: “لم أحبّذ انتصار فرانسوا ميتران وأعلنت بشكل ظاهر وصريح في نص نشرتُه في السادس من مايو ،1981 داعيا إلى الوقوف في وجه المرشح الاشتراكي”، ويعلق شيراك على هزيمة ديستان بالقول بأنه كل أصوات حزبه التجمع من أجل الجمهورية ذهبت إلى ديستان وأن ميتران فاز لأنه حظي بتصويت الذين يتغيبون عادة عن التصويت . ولأن الأمر ليس مأساويا كما يمكن أن يتصوره الكثيرون، يعلق جاك شيراك بسخرية، فيها ما فيها من الحكمة: “في الديموقراطية خسارة رجل، هي ليست ابدا، خسارة مستحيلة العلاج” .
وقد كانت هزيمة فاليري جيسكار ديستان فاتحة لأن يبدأ جاك شيراك في التصرف باعتباره رئيسا للمعارضة . وجاءت الانتخابات البرلمانية لتمنح اليمين أغلبية مما جعلت شيراك أخيراً رئيس حكومة، محكوما عليه بالتعايش مع رئيس جمهورية اشتراكي . وهو ما يدفع فرنسا أن تتحدث مع العالم الخارجي، بصوتَيْن .
وجاءت انتخابات الرئاسة الفرنسية في 8 مايو/أيار من سنة ،1988 وفاز فيها ميتران بأغلبية مريحة . “فشلي، الثاني بعد فشل ،1981 بدا، هذه المرة، واضحا لا لبس فيه . لكني مع ذلك لم أفكر أبدا ولو للحظة واحدة، أنه فشل نهائي”، وينتقل شيراك، بعد تفاصيل عديدة تعنى بالشأن الفرنسي الداخلي، إلى لحظة الفوز، التي لم تكن سهلة ولا وردية . وكانت روائح الخيانات تزكم أنوف المشهد السياسي الفرنسي .
يبتدئ شيراك الفصل المعنون ب”الفوز” بهذه الجملة القاسية والصريحة: “كنت أثق في إدوارد بالادير” . ويروي أنه هو الذي دفعه لتسلم رئاسة الحكومة في حكومة التعايش مع ميتران، سنة ،1993 يتذكر شيراك أنه خلال زيارة له لرئيس الوزراء صارحه وهو يودعه: “جاك . . . لا تنخدع . . . لن أكون أبدا رئيس وزرائك”، ومن حينها بدأ الساسة والأقرباء ينفضون من حوله . “وكان أول من ابتعد عني، من بين أعضاء حكومة بالادير، وزير الميزانية، نيكولا ساركوزي”، ويستعرض شيراك لقاء جمعه، رأسا لرأس، مع ساركوزي، اعترف هذا الأخير أنه سيدعم بالادير . وأضاف ساركوزي: “أنا رجل سياسي، وأمارس السياسة ومن الواضح أن بالادير سيتم انتخابه” . يقول شيراك بأنه لم يحاول ثنيه عن الأمر، ولكن فقط نصحه بالتريث قليلا وبألا يضع كل بيضه في سلة واحدة . و”قبل أن نتوادع، قلت له إنني سأكون مرشحا مهما حدث”، وكان شيراك حزينا، وهو يرى انسحاب ساركوزي . “كنت أعتبره أكبر من مجرد مساعد”، ويكتب شيراك معترفا: “لقد ساعدته، على الرغم من أن ساركوزي ينفي الأمر، على الترشح لخوض معركة الانتخابات البلدية في نويي، حيث أصبح عمدة على حساب شارل باسكوا”، ولكن النزيف استمر، وها هما سيمون فاي وفرانسوا ليوتارد، يلتحقان ببالادير . لم يبق معه سوى صديقه الحميم جون لويس دوبريه .
كانت اللحظات قبل الانتخابية صعبة، وكان الأقرباء يواصلون الهرب من محيط شيراك . ولكن بعضهم شددوا من حضورهم، وعلى رأسهم بيرناديت، زوجة شيراك . “كان دورها دائما وسيظل أساسيا” .
استغل بالادير الظروف الصحية القاسية التي كان يعيشها ميتران، لإظهار برنامجه السياسي حول “السياسة الخارجية الفرنسية” . . . لم يرق الأمر لميتران، ويكشف شيراك أنه خلال الاحتفال في بلدية باريس، يوم 26 أغسطس/آب، بمرور نصف قرن على التحرير، حضر الرئيس ميتران وحرص على المجيء إلى مكتبه (مكتب شيراك): “اختلى بي خلال الدقائق التي كنا فيها معا، رأسا لرأس، من دون أي دواء، بل وبدا لي أنه في صحة جيدة . وبعد أن وقّع في الدفتر الذهبي، كما هو معمول به، من دون إضافة أي كلمة، قال لي مُسرّا: “إنه دورك . سيتم انتخابُك” . وفي يوم 12 ابريل/نيسان، قبيل الدور الأول للانتخابات ب 11 يوما، اتصل بالادير بشيراك طالبا منه تنظيم مناظرة تلفزيونية مباشرة، لكن شيراك رفض الاقتراح، وقلت إن المناظرة الوحيدة التي سأقبلها هي في الدور الثاني .
* يوم 23 ابريل/نيسان من سنة ،1995 تم إعلان عن انتخابات الدور الأولى وكانت على الشكل التالي: ليونيل جوسبان 23 في المائة وشيراك 20 في المائة في حين أن بالادير حل ثالثا ب 18 في المائة، وأقصي .
* في 7 مايو/أيار من سنة ،1995 تم الإعلان عن نتائح الانتخابات الرئاسية، وكانت نتيجتها: فوز شيراك بما يفوق 52 في المائة من الأصوات .
هذا الفوز يقول عنه شيراك بأنه أهداه: “إلى والديه وإلى كل “الوطنيين البسطاء والمستقيمين” الذين جعلوا من فرنسا أمة متسامحة وخلاّقة وفاتحة . فرنسا التي أومن بها منذ البداية” .
نصيحة بطرد الخميني
ورغم أن الكتاب يزخر بالكثير من التفاصيل المثيرة، فإن ما يهم في هذا الجزء هو التركيز اكثر على علاقة شيراك بالعالم العربي، التي ابتدأت في الجزائر الفرنسية، حيث كان عليه أن يقضي فيها الخدمة العسكرية “كانت لدي حساسية خاصة تجاه المشكلة الجزائرية لأني حاربت في الجبال الجزائرية من ابريل/نيسان سنة 1956 إلى يونيو/حزيران ،1957 قبل أن يتمّ تعييني، خلال سنتين، مُوظّفا في مقر الحكومة العامة في الجزائر العاصمة” .
ولكنه يعترف أن الأمر كان صعبا عليه وفي مزيج من القبول والتساؤل “حكومات الجمهورية الفرنسية الرابعة لم تكن تعرف، ربما، ماذا تريد أن تفعل في الجزائر، ولكن الأوامر التي كانت تصلنا على الأرض كانت محددة . ( . . .) لم نكن نستحق أن ننهزم . وعلى كل حال فنحن لمْ ننهزم . وبالنسبة للكثير منا، أخطر ما في الأمر هو أننا منحنا كلمتنا وشرفنا وفي نفس الآن كلمة فرنسا وشرفها، ونحن نؤكد للسكان الذين انضموا إلى قضيتنا بأننا لن نتخلى عنهم أبدا” .
وقد خدم شيراك في منطقة جزائرية على الحدود المغربية، ويعترف أنه لم يكن يقترف أي عنف واعتداء على الجزائريين، وأنه لم يحضر أبداً مشاهد التعذيب . “الشيء الوحيد الذي يمكنني قوله بيقين هو أني لم أكن أبداً شاهداً على هذا النوع من التعذيب في القطاع الذي أشتغل فيه . وهو لا يعني أن هذا النوع من التعامل لم يكن موجودا” .
ويستحضر شيراك اعتراف قدماء المجاهدين الذين كانوا يحاربون في منطقته، بأن شيراك احترم الشرف العسكري، بعيدا عن جرائم وفظاعات الفرق الأخرى . “زعماء المجاهدين المحليين كرّموني بهذا الصدد، على لسان الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، أثناء زيارتي الرسمية للجزائر سنة 2003 . قرأ الرئيس الجزائري مقاطع من كتاب ألّفه زعيم سابق: “كانت في ناحية وهران وحدة يترأسها شخص يدعى شيراك، وأحرص على مديح هذا الضابط الفرنسي . . . لأن تعامله مع الناس كان حسناً”، ويعترف شيراك بأنه لم يكن يهتم كثيرا بالسياسة . ولكن! وعلى الرغم من أن السياسة الخارجية هي من اختصاصات رئيس الجمهورية، تحت نظام الجمهورية الخامسة، فإن دور رئيس الحكومة ليس حصرا على القضايا الداخلية . ومن هنا يُنظر إلى سفريات وزيارات شيراك ما بين سنتي 1974 و1976 . . . “كانت في قسم كبير منها، من أجل التعريف بالصناعة والتكنولوجيات الفرنسية خارج حدودنا، في إطار سياسة تجارية أكثر هجومية” .
نفس الشيء ينطبق على زيارة الشاه لفرنسا في يونيو/حزيران ،1974 لتسخين العلاقات بين البلدين . “كانت العلاقات قد أصيبت ببرودة بعد رفض بومبيدو المشاركة في الاحتفالات الضخمة بمرور 2500 سنة على نشوء الامبراطورية الفارسية”، فقد “كان الشاه يريد أن الحصول على التكنولوجيا الفرنسية لتحديث بلده . وبهذه المناسبة تم التوقيع على صفقات مهمة للتسلح وشراء خمس مفاعلات نووية”، ولأن فرنسا كانت واعية بضرورة عدم الإخلال بالتوازن الدولي، “فقد تفاوضت فرنسا مع العراق، عن طريقي، حول اتفاقات تعاون طاقوي وعسكري . وهو ما قادني إلى الالتقاء بزعيم العراق، صدام حسين، خلال ثلاث مرات: في اكتوبر/تشرين الأول ،1974 خلال زيارة قمت بها إلى بغداد، ثم في أيلول من سنة 1975 في باريس، خلال زيارة رسمية للزعيم العراقي، وأخيرا في يناير/كانون الثاني ،1976 في بغداد، مرة ثانية” .
وكأن شيراك يخاف أن يلام على علاقاته مع صدّام حسين بسبب مفهوم هذا الأخير للممارسة السياسية، يكتب: “ابتداء من سنة ،1974 ازداد التبادل الصناعي والعسكري بين البلدين . في أكتوبر/تشرين الأول استقبلت صدام حسين بذراعين مفتوحتين، من أجل التفاوض حول صفقات جديدة . وعلى الرغم من أنه وصل إلى السلطة عبر طرق عنيفة، فإن المسؤول العراقي، الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة في العالم العربي، لم يكن يعتبر من الزعماء المنبوذين في العواصم الغربية”، ولأن صدام كان يود الخروج من الوصاية السوفييتية، “رَاهَن على فرنسا كي تساعده على تقوية استقلال بلده وبذل مجهوداً كبيراً من أجل التعبير عن صداقته لي”، ويتذكر الرئيس شيراك زيارة صدام إلى فرنسا في سبتمبر/أيلول ،1975 والتي كانت ناجحة إلى درجة أن شيراك صرّح: “أن فرنسا على استعداد لأن تقدّم للعراق رجالها وتكنولوجيتها وقدراتها”، ويكشف الرئيس الفرنسي السابق سراً لا يعرفه الكثيرون وهو أن صدام الذي طرد الامام الخميني من منفاه العراقي، نصح شيراك، عن طريق رسالة من السفير العراقي في باريس، بألاّ يمنح اللجوء للامام الخميني . وكان تحذير صدّام كالتالي: “احذروا جيّدا، اتركوه يتوجه إلى ليبيا، لأن ما سيصرّح به في فرنسا سيكون له صدى دولي مدوّ، في حين أن ما سيقوله في ليبيا لن يسمعَه أحدٌ”، ويعترف شيراك أنه نقل التحذير إلى الرئيس ديستان لكنه فعل عكس ذلك . كان هذا آخر اتصال مع صدام، كما يعترف شيراك . ويضيف أنه: “حين علمتُ، بعد سنوات، الجنون القمعي الذي استولى على الرئيس العراقي، قطعت، بشكل نهائي، كل علاقاتي الشخصية معه . لكن هذا لم يمنعني من الإحساس بالصدمة من النهاية التي اخْتيرت له . هذا الإعدام الليلي الذي تم تنفيذه بنفس الوحشية التي اتُّهِم باقترافها والتي من أجلها تمّت إدانته” .
في الكتاب فقرات مشوقة عن قدرة الرئيس شيراك على الانفتاح على الآخرين . فهو لا يخفي عشقه لليابان، إلى حد أن الكثيرين يتحدثون عن ابن له هناك، وعن حساب بنكي وأموال في مصارف يابانية، ولكن لا شيء ثبت أنه صحيح .
يكتب عن اليابان: “أعشق اليابان، وأحس فيها بأنني في بلادي، كما يحدث لي أيضاً في الصين”، ولأن شيراك مقبل على معارك ومصارعات سياسية حادة وفاضحة، فهو يستلهم رياضة السومو الشعبية اليابانية، في معاركه” . ما يهمني في السومو، ليس هو الصراع في حد ذاته، بل هو مواجهة إرادتيْن وذكاءين يعبران عن الأمر، بشكل جوهري، عن طريق النظر . ( . . .) إن طقوس هذه الرياضة بالنسبة لي درس حياة . أي الحياة التي لا يجب التخلي عنها أبدا، ويتوجب المصارعة حتى النهاية، حتى اللحظة الحاسمة التي نتصور فيها مسبقاً كيف سينتهي اللعب وكيف ستكون عليه نهاية المصارعة” .
كثير من المواضيع لم يتطرق لها الرئيس السابق أو اكتفى بالمرور عليها مرور الكرام، وخصوصا موضوع ساركوزي، فهل للأمر علاقة بمحنته الراهنة مع القضاء؟ ربما سيجيب عنها الجزء الثاني من المذكرات الذي هو بصدد الكتابة .
كتاب “المذكّرات” هو الكتاب الثالث لجاك شيراك، بعد كتابين اثنين، “فرنسا جديدة” و”فرنسا من أجل الجميع” .
الخليج:الثلاثاء ,10/11/2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.