لم تعد النزعات الانفصالية في العالم العربي مجرد ظواهر محلية ناتجة عن أزمات داخلية، بل تحوّلت خلال السنوات الأخيرة إلى أدوات سياسية تُدار وتُستثمر ضمن صراعات إقليمية ودولية أوسع. ومن الدروز في جنوبسوريا، حيث يُعاد إحياء خطاب «الخصوصية» و»الحماية الذاتية»، إلى القوات الجنوبية في اليمن التي تسعى لتكريس واقع الانفصال تحت غطاء الشراكة السياسية، مرورًا بليبيا التي لم تعد منقسمة فعليًا فقط بل مهيأة دستوريًا وجغرافيًا للتفكك، وصولًا إلى السودان حيث تحوّلت قوات حميدتي من ذراع عسكرية للدولة إلى مشروع سلطة موازية يهدّد وحدة البلاد. وفي القرن الإفريقي تبرز أرض الصومال كنموذج أخطر، حيث يُراد للانفصال أن يشرعن دوليًا، لا بفعل إرادة داخلية جامعة، بل عبر اعترافات خارجية تسعى لتثبيت أمر واقع جديد. هذه الكيانات، على اختلاف سياقاتها، تشترك في كونها نتاج بيئة عربية منهكة، لكنها في الوقت ذاته وقود لمشاريع تفكيك ترى في الدولة الوطنية عبئًا يجب تفريغه من مضمونه أو تقسيمه إلى وحدات أصغر وأكثر قابلية للهيمنة. ولعل إعلان الاحتلال الصهيوني نيته الاعتراف ب"أرض الصومال" كدولة مستقلة ليس حدثًا معزولًا أو تفصيلاً دبلوماسيًا عابرًا، بل يأتي في سياق جيوسياسي شديد التعقيد، تتقاطع فيه المصالح الإقليمية والدولية، وتُستَخدم فيه النزاعات الانفصالية كأدوات لإعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة العربية والقرن الإفريقي. من حيث المبدأ، فإن دعم أي كيان انفصالي خارج إطار الشرعية الدولية يُعد مساسًا خطيرًا بمبدأ وحدة الدول، وهو المبدأ الذي قام عليه النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية. وفي الحالة الصومالية، يمثّل الاعتراف بأرض الصومال ضربة مباشرة لوحدة دولة عربية وإفريقية تعاني أصلًا من هشاشة سياسية وأمنية مزمنة. فالصومال، رغم ضعفه، لا يزال معترفًا به دوليًا بحدوده المعروفة، وأي محاولة لتكريس الانفصال تعني فتح الباب أمام فوضى حدودية قد تمتدّ إلى دول أخرى في المنطقة. لكن الخطر لا يقف عند حدود الصومال، فميناء بربرة الواقع على خليج عدن وبالقرب من مضيق باب المندب، يمنح أي قوة داعمة له قدرة استراتيجية على التأثير في أحد أهم شرايين التجارة العالمية. وفي هذا السياق، يُطرح تساؤل مشروع حول التأثير المحتمل لهذا الميناء على قناة السويس، خاصة إذا جرى تطويره عسكريًا وتجاريًا بدعم صهيوني-خليجي، صحيح أن قناة السويس تظل ممرًا لا غنى عنه، لكن خلق بدائل إقليمية قوية قد يُستخدم كورقة ضغط اقتصادية وسياسية على مصر في لحظات التوتّر. أما البعد الجيوستراتيجي الأوسع، فيتعلق مباشرة بتركيا، فأنقرة تُعد الحليف الأبرز للحكومة الصومالية، ولها وجود عسكري واقتصادي واضح في مقديشو، و أي تمكين لكيان انفصالي مدعوم من خصوم تركيا الإقليميين يفسَّر كرسالة مباشرة تهدف إلى تطويق النفوذ التركي في القرن الإفريقي، ودفعه إلى مواجهة غير مباشرة مع الكيان الصهيوني وحلفائه. وفي قلب هذا المشهد، تبرز الإمارات كلاعب محوري، فمن اليمن إلى ليبيا، ومن السودان إلى القرن الإفريقي، يتكرر نمط واحد: دعم قوى محلية موازية للدولة المركزية، تحت عناوين «الاستقرار» و»مكافحة الإرهاب»، بينما تكون النتيجة الفعلية إضعاف الدول وتفكيكها. وفي أرض الصومال، يبدو أن هذا الدور يتكامل مع الرؤية الصهيونية التي ترى في تفتيت الدول العربية فرصة لتكريس التفوق والسيطرة، لا عبر الحروب المباشرة، بل عبر إعادة هندسة الخرائط من الداخل. في المحصلة، فإن الاعتراف الصهيوني المحتمل بأرض الصومال ليس مجرد اعتراف بدولة ناشئة، بل خطوة ضمن مشروع أوسع لإعادة تشكيل المنطقة على أسس الانقسام والتجزئة. وهو مشروع لا يهدّد الصومال وحده، بل يطال الأمن القومي العربي، ويضع مصر وتركيا ودول المنطقة أمام تحدٍّ استراتيجي حقيقي: إما التعامل مع هذه التحولات بوعي جماعي، أو ترك الساحة مفتوحة لمزيد من التفكيك تحت مسميات جديدة. بدرالدين السياري