{يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف}. ومما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قوله: «اتقوا وأعدلوا بين أولادكم». وقد سبق العجب الى بعض الأذهان من توصية النبي صلوات الله عليه وسلامه بالعدل بين الأولاد. إذ المفترض أن عاطفلة الأبوة والأمومة تربو على كل توصية وتغني عن كل توجيه الوالدين في دنياهما وأملهما في الحياة أن تكون الذرية في أرغد عيش، وأوسع رجاء... فليست بهما حاجة الى إثارة الحنان أو مناشدة العدل بين بنيهم وهم جميعا فلذات مشتقات من الأكباد على السواء. نعم.. ولكن العاطفة ليست رائدا للدين في كل شيء وإن كان يعتمد عليها في كثير من توجيهات.. وليست قسطاسا ناهضا بين الأولاد في كل حالة بل كثيرا ما تنشط في جانب وتتبلد في جانب طوعا للمؤثرات ومتابعة للغايات. وإذا تذبذبت عاطفة الأبوة أو الأمومة بين الأولاد لا شك وهنت رابطة الرحم بين الأصول والفروع وتصدع البناء العائلي بين الأخوة وتداثرت وحدة الأسرة وتدابرت الوجوه وكان من وراء ذلك شقاق عاصف بكل ما يحرص عليه الاسلام من جمع القلوب وتنسيق الصفوف وتوحيد أمته بادئا من الأسرة الى البيئة ثم الى المجتمع العام. لهذا ساق النبي صلى الله عليه وسلم نصيحته بالعدل بين الأولاد غير مخدوع بالعاطفة في الأبوين بل محافظا عليها هي من أن تذهب بها ميول أخرى طاغية وناشد رعايتها في الترفق بالأولاد فقال أول حديثه: «اتقوا الله» وهذه جملة يقولها نبي الإسلام في مطلع الأمر المهم أو في سياق التشريع الخطير. ثم قال «في أولادكم».. وفي نسبة الأولاد الى المخاطبين استنهاض للأحاسيس وإيقاظ للضمائر الدينية واستخلاص للأنفس مما يستبد بها... أو يستدرجها الى الانحراف عن العدل بين الأولاد. مراتب وإذا كان الاسلام لم يفضل جانبا من جوانب القرابة على تعددها فكيف يغفلها في أول مرتبة من مراتبها بين الأبوين والأولاد؟ وهنا نجد إطارا محكما يجمع بين الوالدين والبنين ونجد نطاقا حصينا للقرابات على تفاوتها قربا وبعدا. ففي جانب الأبوة والبنوة يحض في قوة على رعاية الأبناء بالعدل. ثم يحض على الإبقاء في قوة أكبر على البر بالوالدين أقصى ما يمكن حتى جعل الإحسان إليهم رديفا للدعوة الى التوحيد وعدم الاشراك به سبحانه. ثم أضاف الى ذلك جميع القرابات ووضعها في هذا النطاق وحاطها بإيجاب التراحم وبأسباب كثيرة تدفع عنها عاديات الإهمال وأبقى عليها في كفالته حتى سماها رحما واختار اسمها هذا من صفة الله الرحمان الرحيم ووعد من وصل رحمه بأن الله يصله وتوعّد من قطعها بأن الله يقطعه. وأنعم بصلة الله لعبده ديناودنيا ومعاذ الله من قطيعته وسخطه ثم العدل بين الأولاد يكون في كبارهم وصغارهم.. ويكون في العطاء والإنفاق.. ويكون في المعاملة والتلطف وفي التربية والتعليم ولا أقول في المحبة القلبية فإنها من تقسيم الله لا بقدرة إنسان وإنما يكلف الإنسان ما يطيق. وقد يخطئ بعضنا فيفهم أن المساواة في الظلم كما نقول فيقتر مثلا على جميع أولاده ويكنز المال عن حاجاتهم ويعتذر لنفسه بأن لم يفضل أحدا على أحد ويكون سببا في إحساس الأولاد بالحرمان ويدفعهم ذلك الى الجريمة يوما ما أو يخلق في صدورهم عقدا نفسية تقضي على مواهبهم. كما أن هذا يعتبر إجحافا للجميع وهو شر من ظلمه للبعض وأما المساواة في الظلم عدل ففي غير هذا. ثم هو ليس عدلا مطلوبا. إيثار وقديما كان سلف المسلمين يعدلون بين الأولاد حتى في التقبيل بين الأطفال وما كانوا في العطاء المالي يؤثرون ولدا على ولد ولا يحرمون الإناث ويحابون الذكور ولا يرجحون ابن الزوجة الجديدة على أبناء ضرتها. وحينما تقتضي ضرورة الى شيء من التفضيل كانوا يستأذنون الآخرين أو يتداركون هذا بالتسوية بعد. وكثيرا لا يكترثون بما أوجب الله ورسوله من العدل ولا يعبأون بما في الإجحاف من ضرر وهم يقلدون أحيانا أقوالا في بعض المذاهب تأذن للمالك أن يتصرف في ملكه كيف شاء. ولكنها أقوال مردود عليها بقوة وهي غير ملائمة لروح الإسلام فيما ينشده من العدل المطلق بين الأولاد. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لو كنت مؤثرا أحدا على أحد لآثرت البنات على البنين. فأين من هذا صنيعنا الذي دأبنا عليه مع البنات والبنين؟ إذا لم يكن الأب أو الأم عادلا بين أولاده فهو مفسد لما بينهم من مودة وهو غير أمين على العدل في شيء آخر من شهادات بين الناس أو من عمل لغيره أو لأمته. وفي القرآن ما يفيد أن يعقوب عليه السلام كان يؤثر يوسف بشيء من حبه لا بشيء من ماله ولك لا حرج فيه على بقية أبنائه. ولكن إحساسهم بأن أخاهم يوسف يزاحهمهم عند أبيهم هوّن عليهم الجريمة واحتالوا فيها، فألقوه في غيابة الجب ليتم ما يجري به القدر بعيدا عن أعينهم.. وهي عبرة لمن يعي قصص القرآن.