شيخ ملقى على فراش المرض وراء قضبان المحكمة وهو محاط بنجليه اللذين يحاولان منع عين الكاميرا من الوصول إلى وجه أبيهم. من منا ينكر أن صورة حسني مبارك الذي حكم مصر عما يزيد على ثلاثين سنة لم تزعجه ولم تثر في نفسه الشفقة ولو قليلا؟ إنها عظمة وبؤس الحكم كما لو لم تجسمهما أبدا صورة مثل تلك الصورة لآل مبارك في قفص الاتهام. وما من شك في أن هذه الصورة الصادمة ستبقى عالقة في ذهن الشعوب العربية حيّة في مخيالها بما تحمله من قوة رمزية. إن محاكمة حسني مبارك تشكل تحولا فارقا في التاريخ السياسي العربي. لماذا؟ لأنها أولا تعيد الحكم إلى مفهومه الأصلي بعد أن سوّت بين الحاكم والمحكوم أمام السلطة الحقيقية الوحيدة: سلطة القانون. ولأنها، ثانيا تبشّر بظهور مجتمع عربي جديد متحرّر من الخوف والذلّ. ولأنها، ثالثا تفتح عهدا للعدل والعدالة وتكسّر محرّما رفع الحاكم العربي منذ الخليفة معاوية إلى مرتبة المقدّس الذي لا يُسأل. لكن محاكمة حسني مبارك الشيخ المريض الذي جاوز الثمانين لا يمكن أن تخلو من مسحة عنف قد تحيلنا إلى التأمل في حالة الغضب الكبير الذي لا يزال يسيطر على نفوس المصريين رغم مرور نصف سنة على سقوط النظام. إنه غضب جارف قد يطول زمنا لأن من طبيعة الشعوب المسالمة إذا ثارت أن لا تهدأ بسهولة وهو ما فهمته السلطة العسكرية فعجلت برمي أحد رموزها الرئيس المخلوع مبارك في قفص الاتهام لامتصاص الغضب وتهدئة الشارع. لكن محاكمة مبارك لا تعني نهاية مشاكل مصر لأن سقوط نظام مبارك لا ينهي منظومة الحكم في مصر التي تبقى مهيمنة بطبيعتها العسكرية منذ ثورة 1952. فالمجلس العسكري برئاسة المشير طنطاوي لئن ضحى بحسني مبارك فإنه لا يزال يحتفظ بأهم ورقة في اللعبة. إنها ورقة الزمن الذي قد يطول في المحاكمة التي تنتهي دون نهاية بإعلان وفاة مبارك قبل صدور الحكم وهو ما يتمناه الجميع وخاصة أعضاء المجلس العسكري الذي تربطهم بالمخلوع علاقات وطيدة. ولا يجب أن ننسى مكانة مصر ودورها في الجهة اللذان يجعلان منها موضع الاهتمام والمراقبة من جانب أهم الأطراف الخارجية المعنية بقضايا الشرق الأوسط العديدة والمتشعبّة. فكل تطور في الداخل لا بدّ أن يكون له تأثير على التوجه الخارجي لمصر الذي ليس مسموح لها أن تغير سياستها دون إحداث اهتزازات قد تكون لها انعكاسات خطيرة وغير محسوبة في الجهة كاملة. لكل هذه الاعتبارات تبدو محاكمة حسني مبارك شبيهة بمسرحية الظل الصينية لا ترى لها غير خيالات في حين تحتجب عنك حقيقة الواقع والأشخاص الذين يتحكمون فيها. ومهما يكن من أمر هذه المحاكمة، فإن لها قيمة بيداغوجية، بل علاجية قد تمنع مستقبلا الطامحين الى اعتلاء سدّة الحكم من ممارسة سياسة الاستبداد والاستفراد بالرأي ونهب ثروات شعوبهم.