بتصفّحك للثلاثين صفحة بعد المائتين، حجم الكتاب يؤكد لك الدكتور عبد السلام المسدي بأن «تونس وجراح الذاكرة» كتابه الذي صدر مؤخرا بداية هذا الصيف، ليس كتابا ثأريا، ولا تتضمن صفحاته لا من قريب ولا من بعيد «زعامة» أو «بطولة» او «ركوبا» على الثورة، حتى وإن كان صاحب الكتاب من المؤمنين بأهدافها ومن المنادين سلفا بإنهاء الحكم الجائر... عبر سطور هذا الكتاب الذي صدر في طبعة راقية وأنيقة، مزج الدكتور عبد السلام المسدّي الأدب بالسيرة الذاتية بالشهادة التاريخية وب«بوْح» المسؤول الذي شهد... فرأى.. وعايش أحداثا ووقائع ما كانت تُسوّق للرأي العام كما يسردها الدكتور عبد السلام المسدي، وقد عاشها وهو المسؤول السياسي بعباءة المثقف... مثقّف لم يغب عنه سؤال الحيرة... وسؤال العمق والسؤال المفتوح... الذي يتطلب اجابة فيها تفسير وتوضيح واقناع... هو السفير وهو كاتب الدولة ثم الوزير، بقي د. المسدي محافظا على الخط المثقف فيه، فتراه ناقدا لذات المثقف (ذاته هو) عندما يتمسّك بالبرج العاجي والصمت الذي يحمل «خوفا ما» من الطاغية... وطورا تراه يصدح وسط جمع من المسؤولين حين همّ الأمر شهادة بدأ نصفها الاول وقد باح به في برنامج تلفزي شاهده «صانع التغيير» (كما كان يُنعت بن علي أيام حكمه..) ونصفها الثاني أتى على لسان المثقّف لمن حوله، بأن كشف فاكتشف عيب «الحاكم بأمره» كما ينعت الكاتب «بن علي» وعيوب «البطانة» من الساسة الملتفين حوله بخصوص ملف الطلبة في تونس... وقد أقرّ له (للمسدي) بن علي وأمام الحضور أنه لم يفهم أبدا ملف الطلبة في تونس، رغم انه شغل مناصب أمنية قمعت الطلبة قمعا سواء بالعصا او السجن او التجنيد... الجسر بين المسدي الدكتور الأكاديمي وبين المسؤولية عهد «بن علي» ازدادت تصدّعا حين عارض الوزير «أهواء» السلطان في تناول مسألة علمية أكاديمية ليس للرئيس شأن عليها خاصة أنها قصة يشملها قانون منظّم. بين الفينة والاخرى تنبري الأسطر والفقرات، في لغة مأدبة ومستأذنة من القارئ، ليخاطبه صاحب النص مباشرة، إما لطلب المعذرة عن «إطالة» لمسها صاحب الكتاب او لأن تفاصيل يسردها «المثقف الشاهد» لأول مرة وما كان له ان يفعلها من قبل... عديدة هي المحطات التي شملها الكتاب «تونس وجراح الذاكرة» وكذلك الشخوص التي كانت فاعلة في فترات الشهادة التي قدّمها الدكتور المسدّي... ولكن «حياكة» النص جاءت ملفتة، فلا هو خطاب مباشر فيه السرد التاريخي مسيطرا ولا هو تأليف او توليف لقصص حقيقية كان المؤلف فاعلا في جزء منها وشاهدا على أجزاء منها. هل كان للرأي الناقد في هذا النصف دور؟ نعم، هو كذلك... لم يكن النص رتيبا ولم تكن الملاحظات مجاملة تجاه هذا او ذاك من الذين شخصيات وطنية وأحزاب وتيارات فكرية صنعت صورة «صانع التغيير»... «الحاكم بأمره»، «السلطان» الذي لا يُردّ له قول ولا قرار... أكثر من ثلاثمائة صفحة، عدد صفحات هذا الكتاب، جاء النص كاشفا لوقائع وأسرار ومحلّلا لسيناريوهات، دائما من وجهة نظر المثقف الاكاديمي... فقراءة طيبة لكل المطلعين على الكتاب الذي طرح في الأسواق...