للمرّة الثانية في أقل من أسبوعين، شهدنا الرئيس السابق المصري حسني مبارك يمثل أمام القضاء، في قفص الاتهام... التّهم الموجّهة الى «رئيس» أكبر دولة عربية، لم تهمّ السرقات... والمحاباة... والتسهيلات للعائلة لتنهب... وتسطو على أموال ومقدّرات الشعب... فهذه تهم ثانوية أمام التهمة الكبرى: قتل النفوس البشرية بقرار سياسي، بمجرّد أن خرج الشعب المصري يتظاهر سلميا محتجا على النظام، ومطالبا برحيله... هذه هي القصّة في اختزال... والمصريّون الأشقّاء، الذين تسلّموا مشعل الثورة والاحتجاج من تونس، بلد «ابن خلدون» و«ابن رشيق» و«ابن منظور»، ها هم يقيمون العدل... ليصبح العدل أساس العمران، نعم، كما قالها «ابن خلدون» منذ أكثر من ستّة قرون، ولكن ليصبح العدل أساس الثورة... وقلبها النابض... والدليل على أن الأموات برصاص النظام، هم شهداء... صحيح أن نوعية المحاكمة في مصر، سوف تكون درسا قاسيا على الرجعيين والدكتاتوريين الذي مسكوا أو هم على أبواب مسك السلطة، من الذين يتلحّفون بالجمود ويعادون الديمقراطية، ولكنها محاكمة، لنظام سياسي برمّته وبكل زمرته من مسؤولين سياسيين الى مراكز قوى متنفّذة، تستمد نفوذها من السلطة والحكم... ما يجدر بتونس كما مصر، كما البلدان العربية المنتفضة والثائرة شعوبها، هو أن تؤسس قوانينها التي ستصدرها الهياكل التشريعية المنتخبة من الشعب، الى قانون المحاسبة، إذ لا يكفي ان نبني أنظمة ديمقراطية، يصل فيها المسؤول الى دفّة الحكم بواسطة الانتخابات. إذ مهما كانت الانتخابات شفّافة، فإن الأساس، هو أن يمارس المسؤول المنتخب، السلطة برقيب ومحاسب: هو الشعب. اليوم يقف مبارك في قفص الاتهام، بصفته رئيس دولة، ومسديا لتعليمات وقرارات قتلت وفقها «الأجهزة» المعنية، مواطنين مصريين خرجوا الى الشوارع في مظاهرات واحتجاجات سلمية... وهذا ما سينقذ ثورة الشعب المصري، من الالتفاف ومحاولات تعويم القضايا... صحيح أن الرئيس المصري السابق حسني مبارك، يقف أمام المحكمة، في مناسبتين، آخرها أمس، وهو ممدّد على فراش طبي، ولكنّه كذلك لأن لا إعفاء لأي مسؤول عن قتل المواطنين، والتلاعب بمقدّراتهم الوطنية، من القصاص، وبالتالي فإن العدل والثورة متلاصقان ومرتبطان ارتباطا عضويا، لأنه بسقوط طرف منهما، لا يقوى الطرف الآخر على الصمود، بل ولا يكسب شرعيّة الوجود. محاكمة حسني مبارك، هي محاكمة سياسية، يقف فيها رئيس دولة سابق، نحّته الثورة، ويحاكم بصفته رئيسا مارس الحكم والسلطة، ويقاضى كمسؤول سياسي، وليس كرئيس عصابة أو سارق أموال عامّة... هذا هو الفرق، في طرق المحاكمات المطروحة لهؤلاء المسؤولين... الفعل السياسي، لم يعد في تونس كما مصر، أين ثار الشعبان وأطاحا بنظامي الحكم، لم يعد بلا حساب ومحاسبة. كما أن الجريمة السياسية، التي كمّمت بها أجهزة النظامين الأفواه وقتلت الحريات قبل أن تقتل المواطنين بالرصاص، حيث جاهروا بمواقفهم المناهضة للنظامين وعبّروا عن إرادة قويّة في رحيل النظامين... هكذا يمكن أن نفهم معاني الثورة وأهدافها، سواء في مصر أو في تونس... على أن العدل هو أساس الثورة.. والمحاكمة لابد وأن تكون في نفس توجهات وأهداف الثورة... وما عدا ذلك فإنه اما التفاف صارخ على الثورة، والذين يمارسون الالتفاف عليهم أن لا يهنأوا كثيرا لأن الشعوب أذكى من حكّامها، والدليل أن الشعب يختار الحاكم ويرفضه، والعكس لا يمكن أن يحصل. وإما ذرّ رماد في العيون، وبالتالي، على الذين يقدّون السيناريوهات والتمثيليات، أن يعوا أن الشعب الذي ثار في 14 جانفي في تونس وفي 25 جانفي في مصر، هو القادر على أن يعيد للعدل ضماناته... وأن يعيد العلاقة عضويّة بين الثورة والعدل.