تصوّروا أنّ هذا العالم الذي فيه نحيا ليس منه الشيخ محمد صالح المنجّد! فقط، تخيّلوا لو لم يكن هذا الشيخ الظريف الطريف الخفيف بين ظهرانينا، يخطب فينا، ويفتي المستفتين منّا. أنا، شخصيّا، لولا الشيخُ لكنت امرئا فظّا غليظا. ولذلك، أنا أحبّه في اللّه أوّلا، ولظرفه ثانيا، ولكونه ملاذ الحائرين ومثابة المكروبين في ديار الإسلام ثالثا. لمن نسي الشيخَ الجليل، نذكّر بأنّه الشيخ عينُه صاحبُ الفتوى المشهورة بقتل الفويسقة أمّ خراب المعروفة بميكي ماوس! وللأمانة، فأنا لا أصبر على بعده، غير أنّي، وخلافا لشريعة العشّاق، أزوره غبّا، لا زهدا في وصاله واصطبارا، ولكنْ ليزداد عندي حبّا ! زرته هذه المرّة، بعد البعاد، لأجد في انتظاري مفاجأة من الحجم الثقيل ضمّها موقعه (الإسلام سؤال وجواب): سؤال لا شكّ في أنّه يتلجلج في صدور الملايين وتمور به الأفئدة الحائرة في هذا العالم الإسلاميّ من الماء إلى الماء: حكم ردّ التحيّة على الببغاء! كان جواب الشيخ أجابه اللّه إلى ما يتمنّاه كعادته دوما جوابا مؤصّلا يجمع المنقول إلى المعقول، والمنثور إلى المنظوم. قال: «أوّلاً: قال الفيّومي رحمه الله : البَبْغَاءُ : طائر معروف (تصوّروا لو لم يقل الفيّومي إنّ الببغاء طائر معروف ما كان سيحلّ بهذه الأمّة!)، والتأنيث للّفظ لا للمُسَمَّى، كالهاء في حمامة، ونعامة، ويقع على الذكر والأنثى، فيقال: «بَبْغَاءُ» ذكر، و«ببْغَاءُ» أنثى، والجمع: «بَبْغَاوَات»، مثل صحراء وصحراوات. «المصباح المنير في غريب الشرح الكبير» ( 1 / 35). ثانياً: الذي يظهر أنّه لا يشرّع ردّ السلام على الببْغاء وقد تُشَدَّدُ الباءُ الثانيةُ ! الذي تعلَّم إلقاء السلام، لأنّ السلام عبادة ودعاء يحتاج لقصد من قائله. ولا قصد لذلك الحيوان المعلَّم، فيمتنع الردّ عليه، وحكمه حكمُ الشريط الذي يسجَّل عليه سلام قائله، فيُسمع، فهو حكاية صوت، وليس له حكم السلام إنْ كان من صاحبه على الهواء مباشرة، فإنه يُردُّ عليه وجوباً كفائيّاً... وعليه: فطائر الببغاء لا يقصد السلام، لأنّه لا عقل له، وما يقوله من ألفاظ فهي ترداد مجرّد لما يتعلّمه، غير مراد منه..» على أنّ محبّة الشيخ الجليل – جُعلت فداه - لا تمنع من جداله ولا من سؤاله: كيف يجوز ردّ التحيّة على سلام المذيع ولا يجوز ردّها على سلام الببغاء؟ وكلاهما حكاية عن صوت الإنسان. فالمذيع يسلّم عبر حامل هو المذياع أو التلفزيون، والببغاء يحكي بحنجرته الصوت الآدميّ الذي علّمه إلقاء تحيّة الإسلام دين خير الأنام؟ كيف يقيّد الشيخ – قيّد اللّه أجره في ميزان الحسنات – الردّ على سلام المذيع بالبثّ المباشر والتسجيل، ولا نراه يهتمّ بأنّ سلام الببغاء حيّ مباشر، تتوافر فيه مقاصد المسلِّم ومدارك المسلَّم عليه. قال النووي في «الأذكار»( !! ): «قال الإمام أبو سعد المتولّي وغيره: إذا نادى إنسانٌ إنسانا من خلف ستر أو حائط، فقال : السلام عليك يا فلان، أو كتب كتابا فيه: السّلام عليك يا فلان، أو السلام على فلان، أو أرسل رسولاً وقال : سلّم على فلان، فبلغه الكتاب أو الرسول، وجب عليه أن يردّ السلام». أفلا يؤخذ الستر والحائط والكتاب والرسول شواهد نقيس عليها نازلة المذيع والببغاء؟ ألمْ يوجب الشيخ ابن باز ردّ السلام على سلام المذيع دون تمييز بين بثّ حيّ ولا تسجيل، وكذلك فعل الشيخ صالح الفوزان. بلْ لمَ لا يسير الشيخ المنجّد على خطى شيخه العثيمين الذي رأى من الأحوط ردّ السلام على تحيّة المذيع إذا عُلِم أنّه بثّ مباشر، فيقيس عليه الردّ على سلام الببّغاء، وهو تصويت حيّ يحكي صوت الإنسان، ولو من باب سدّ الذرائع والاحتياط! وهل هذا الطائر اللَّسِنُ أقلّ فطنة من الحجر الذي كان يسلّم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة، أو أدنى نباهةً من الشجر الذي كان النبيّ لا يمرّ به حين استقبله جبريل بالرسالة إلاّ قال السلام عليك يا رسول اللّه ! وما نظنّ مَن كان خلُقُه القرآن إلاّ يردّ التحيّة بمثلها أو بخير منها؟ ألم أقلْ إنّ عالَما من دون الشيخ المنجّد هو عالم بارد موحش مقطّب عابس قمطرير؟