تحقيقُ أهداف الثورة، وعلى الرغم من وجود متضرّرين منها يريدون عرقلتها بشتّى الطرق، بات مطلبًا جماعيًّا يجاهر بتبنيّه الكلُّ. واستتباب الأمن بما يعنيه من إعادة اعتبار إلى حرمة المواطن وهيبة الدولة واحترام القوانين شرط من شروط تحويل هذا المطلب إلى أمر واقع. من هذه الناحية كان في وسع خطاب السيّد قائد السبسي الأخير أن يكون محلّ توافق وإجماع. فثمّة أساليب مرفوضة رفضًا باتًّا من أيّ طرف كان مهما كانت شرعيّةُ المطالب. وثمّة حوار في كنف الاحترام يجب أن يسود بين كلّ الأطراف مهما كانت درجة الاختلاف، كي لا تظلّ ذهنيّة الاستبداد قائمة. إلاّ أنّ ما حدث ليس مسؤوليّة طرف واحد. وأيًّا كان الأمر فإنّ الخطاب الذي واجه هذه الأحداث بدا غريب الأسلوب هو أيضًا. إذ كيف لحكومة تعتبر إجراء الانتخابات سبب وجودها أن تنجح في إجرائها دون وئام كامل مع شعبها من جهة، ومع أجهزتها الأمنيّة من الجهة الأخرى؟ ثمّة في هذا الخطاب رائحة قَدامةٍ يتعذّر التواصُلُ معها على الرغم من كلّ الاحترام الذي تمليه الأخلاقُ والرغبةُ في تجاوز هذه المرحلة الصعبة والحاجةُ إلى أن يكون في الطائرة قبطان. وهي قدامة تبدو في غفلةٍ تامّة عن أنّ النبرة البورقيبيّة ليست ملائمةً للمرحلة، فضلاً عن أنّ الجلباب البورقيبيّ ليس في متناول الجميع. قدّم لنا الخطاب الأخير للسيد قائد السبسي رصدًا مخيفًا لحالات من العنف الجماعيّ والانفلات لم تخلُ منها جهة من جهات البلاد من شمالها إلى جنوبها. وهي صورة قاتمة لهذه المرحلة الانتقاليّة الحرجة، شبيهة بنشرات الأحوال الجويّة حين تنذر بالغيوم والرياح المتقلّبة والزوابع الرعديّة. الأمن مطلب جماعيّ، لا شكّ في ذلك. ومن بين أهداف الدولة، أيّ دولة، أن تجعل الحياة ممكنة، عن طريق توفير الأمن وتحديد الواجبات، أي نعم، ولكن أيضًا عن طريق ضمان الحريّات وتأمين الحقوق للجميع، مواطنين ورجال أمن. الدولة لا تستطيع القيام بمهمّتها في غياب منظومة من المؤسّسات والأجهزة، على رأسها الأجهزة الأمنيّة، التي تكون عقيدتها خدمة المواطن وحمايته. إلاّ أنّ الصورة ازدادت قتامة بما استعرضه الوزير الأوّل من مظاهر الاحتجاج والتمرّد حسب وصفه، التي شهدها قطاع الأمن، وهو يد الدولة، ممّا يكاد ينذر بأنّ يد الدولة لم تعد تحت تصرّفها! إلاّ أن هذا الرصد لم يكن مصحوبًا بالتحليل المطلوب، ولم يتعدّ القراءة الأمنيّة، ولم يخْلُ من نقاطِ ظلٍّ وصمتٍ وغموض, وهي من الأكسسوارات القديمة، وليست في مستوى استحقاقات ثورة تمرّ بمنعرجها الأخطر حتى الآن. ثمّة في ما يتعلّق بوضع القطاع الأمني أمور تتجاوز الاحتجاج والتمرّد كي تطال العقيدة الأمنيّة وهي بين ماضٍ مُزمن ومنشود متعسّر الولادة. دون أن ننسى الوضع المهنيّ والإنسانيّ. كما أنّ في القطاع الأمنيّ شرفاء يريدون تطهير قطاعهم والتخلّص من الفجوة التي حفرها الاستبداد بينهم وبين مواطنيهم. وقد لا يكون من المستبعد أيضًا وجود لاعبي كواليس. وهو ما يرجّحه بعض الغمز في الكلام. إلاّ أنّ من واجب السياسيّ المحنّك تجنّبُ الاستفزاز وتلافي التعميم والتعامُلُ مع ذوي النوايا الصادقة. وقد آن الأوان لتغيير العقليّات ووضع ما يحدث في الكواليس أمام الرأي العامّ. وثمّة في ما يتعلّق بالاضطرابات الشعبيّة المتكرّرة في الكثير من جهات البلاد أمور تتجاوز شمّاعة العروشيّة أو فزّاعة الفارّين من السجون وغيرها من التبريرات. وقد لا يكون من المستبعد أن تحدث تجاوزات هنا أو هناك بفعل فاعل أو انحيازًا إلى من لا يستحقّ. إلاّ أنّ من الثابت أيضًا أنّ الكثير من هذه الاضطرابات راجع إلى إحساس بتواصُل التهميش والنسيان. وكم كان حريًّا بالخطاب الحكوميّ أن ينصت إلى ما تحت الوقائع من صرخات استغاثة، وأن يواجه المشاكل الحقيقيّة، وأن يتجاوز اختزال المسألة في جانبها الأمنيّ. ثمّة تآمر دون ريب. وثمّة احتقان لا شكّ فيه. وهو واقع غير مستغرب في مثل هذه المرحلة الانتقاليّة وفي مثل هذه الوضعيّة الثوريّة. من ثمّ لا ضرورة للنبرة السوداويّة ولا حاجة إلى التهويل. إلاّ إذا كان التهويل تكتيكًا لمواجهة إغراء التهوين. وإذا صحّ ذلك فهو تكتيك خاطئ، لأنّه يزيد الاحتقان الذي ما انفكّ يتفاقم كلّما اقترب موعد الانتخابات. وكأنّ ثمّة رغبة في تعكير الأمور حتى يتأجّل هذا الموعد أو يُلغَى. ولعلّ من غرائب الأمور أن يتمّ هذا التعكير على لسان من يريد التصدّي له، فإذا هو يثير الخواطر عوضًا عن تهدئتها. وهل من المعقول لدولة عمرها ثلاثة آلاف عام، وفق كلام الوزير الأوّل، أن تطلق وصف القردة على بعض أبنائها؟ وليكن أنّهم متمرّدون. وليكن أنّهم متّهمون بأبشع التهم. أليس من أُسس الدولة أن يكون المتّهم بريئًا حتى تثبت إدانته؟ فبأيّ حقّ يُسمّى قردًا وهو بشر يخطئ ويُصيب؟