عليك أن تقضي 15 ساعة كاملة في الجو حتى تصل إلى جاكرتا...أنت القادم من تونس... 15 ساعة من الصبر...والتعب...والخوف أيضا لأن المطبات الجوية الكثيفة التي ستعترض رحلتك هذه خلال أكثر من نصف المسافة سيجعلك تشعر بأن الطائرة قد تسقط في أي لحظة... لكن لا بأس !!... تصل جاكرتا ظهرا...هنا تستقبلك هذه المدينة «بحرارة»...حرارة الطقس... وحرارة أهلها الطيبين... خارج مطار سوكارنو الدولي... يبدو لك منذ الوهلة الأولى أن كل شيء في هذه البلاد مختلف عن السائد... درر متناثرة تطرب لهدير جداول المياه و«تغازلها» أحزمة النار الناسفة... الشوارع تحتضنها البساتين من كل جانب...والبيوت تغطيها الخضرة والأنهار تجري من تحت القرى الهادئة والمطمئنة...ولو إلى حين !! الطبيعة هناك...تترك طابعها في كل مكان وفي كل زاوية وتستكين في خطوط مستقيمة... وفي ألوان ذائبة متداخلة ومتمازجة مع ألوان المباني المليئة بتفاصيل الأيام والشهور والسنين التي عبرت شوارع هذه المدينة، أحيانا بخطى راقصة» سريعة... وأحيانا أخرى بطيئة وثقيلة مثل هزيع العاصفة فوق أسقف البيوت ...يقودك إيقاع المدينة إلى قلبها... هناك حيث تبدو لك «جوهرة الأرخبيل» وكأنها الأكثر شساعة بين عواصم الدنيا والأكبر بأراضيها المترامية التي تحاكي خيوط شمس الصباح الطالعة من الشرق لتضيء كل صباحات جزرها البحرية المتناثرة على خطوط شمسها الدافئة... وكأنها أرادت أن تضفي دفئها على نحو 250 مليونا من ناسها بمختلف مشاربهم وأمزجتهم المتباينة... يعج يوم جاكرتا صخبا وعملا... فرغم أن المدينة عمرها أكثر من 5 قرون فإنها تبدو لزائرها مدينة فتيّة...تضج بالنشاط والحيوية... فهي تزدحم بالأسواق والمجمعات والفنادق ومصانع السيارات... والطائرات...لكن العاصمة تخلد للنوم باكرا تحسبا لغد قد يكون أسوأ...فالنمو الديمغرافي وأحزمة الفقر ونشاط الزلازل والبراكين يضاعف «وجع» الأندونيسيين ومتاعبهم... ويربك اقتصادهم... لكنه لا يعطل حيوية هذه المدينة التي تبدو لزائرها عبارة عن سوق كبير للمنتجات الوطنية الأندونسية تحديدا...وربما لهذا السبب بالذات لم تتمكن الأزمة الاقتصادية منها بما أن هذه البلاد لم تكن مقترضة من الخارج ولم تعتمد على التصدير كعامل أساسي لديمومة تطورها وازدهارها الاقتصادي الشوارع هنا تشهد ازدحاما خانقا فمسافة بضعة كيلومترات قد تستغرق من وقتك ساعات... وفي كل بضعة أمتار «تجبر» على التوقف لتدفع معلوم المرور... لكن في هذه الشوارع ثمة ايضا ما يثير انتباهك للوهلة الأولى... فهذه الشوارع تبدو كأنها تستضيف سباق الدراجات ذلك ان الدراجة هنا او «الموبل» كما يسميها الأندونيسيون هي وسيلة النقل المفضلة للكثيرين نظرا الى فاعليتها في التعامل مع الازدحام وأيضا لكونها رخيصة بالمقارنة مع السيارات.. ... في ميدان ميرديكا، يقف أشهر معالم جاكرتا... هناك حيث يعانق تاريخ أندونيسيا حاضرها وينتصب برج موناس الشهير مخترقا الفضاء... وقد «أشعل» رأسه ذهبا متوسطا المتاحف والحدائق الجميلة وتحيط به البنايات الحديثة والمؤسسات الرسمية من كل جانب... في سفح البرج الذي أودع ذاكرة أندونيسيا ستجد عشرات الملاعب الرياضية والملاهي وأماكن الترفيه التي تستقطب السياح... ويتباهى الاندونيسيون كثيرا ببرج موناس لأنهم يرون فيه رمزا لكفاحهم الطويل ولتصميمهم على الأخذ بناصية الحداثة لكن البرج ربّما له أكبر أو أعمق قيمة فهو يترجم توق هذا الشعب الى مناطحة عنان السماء.. في جانب آخر من هذا الميدان تفخر أندونيسيا بجامع الاستقلال أكبر مسجد في جنوب شرق آسيا... ويحرص الكثير من الاندونيسيين على الصلاة في هذا الجامع الذي يبدو بمثابة تحفة معمارية... ربما هم يعتقدون ان في الصلاة به مضاعفة للأجر... أما في الطرف الغربي ل «الميدان» فستجد المتحف القومي الذي أسسه الهولنديون في عام 1778.. ويعرف هذا المتحف باسم مبنى الفيل وذلك نسبة الى تمثال الفيل الموجود امامه.. في داخل كل متحف من هذه المتاحف التي تمثل نماذج سكان الولايات الأندونيسية المختلفة تجد ديكورا داخليا من الأثاث والأدوات التي تعبّر عن الثقافة والتقاليد التي تخصّ السكان وتتخللها بحيرات اصطناعية وحدائق خضراء شاسعة وتعلوها عربات التلفريك التي تتيح للزوار مشاهدة المنطقة من أعلى... ولبيان البون الشاسع في ثقافات هذا البلد يمكن عقد مقارنة واحدة للتدليل فقط على مدى التنوّع والاختلاف بين أهل جاكرتا نفسها كسكان عاصمة مدنيين تبدو عليهم مظاهر العولمة في أزيائهم العصرية ويركبون السيارات او الدراجات البخارية بينما يتسم اهل جزيرة «بابوا» في شمال شرق اندونيسيا ببشرة سمراء ويلونون وجوههم وأجسادهم العارية برسوم وألوان عديدة ويستخدمون الحراب في شكل يذكّرك بسكان الجزر القدامى وبالبدائية التي كانت نمطا للحياة لدى بعض الشعوب قبل آلاف السنين... لكن ليس هذا كل شيء فزيارتك الى أندونيسيا «بلد التوابل» كما يطلق عليه، ستمنحك لقبا لطالما حلمت به... لأنك ستتحول على الفور الى «مليونير» لكنك لن تسعد كثيرا بهذا اللقب، لأن هذه الملايين يمكن ان «تتبخر» من جيبك في أيام قليلة بما انك ستضطر الى صرف نحو مليون يوميا على أقل تقدير قد يذهب نصف هذا المبلغ فقط في وجبة «الاندومي» الشهيرة في أندونيسيا... وهي ليست سوى حساء ساخن!... ولا غرابة في ذلك فالدولار الواحد يعادل في أندونيسيا ما قيمته 9 آلاف روبية!! وللحديث بقية