امتعاض فصدمة فمحنة كنت واحدا ممن سلط عليهم العسف حسب تعبير أبي القاسم الشابي والتجني والاقصاء بل والتشفي الذي دام سنوات عديدة، نتيجة مواقفي المحافظة على الخط النظيف والمتصدية لتيار الفساد الذي استحكم. واشتعلت المحنة الأخيرة عام 1999 إبان انعقاد اللجنة المركزية للتجمع في دورتها العادية ليومي 30 و31 أوت، وقد حضرت أشغال تلك الدورة كملاحظ. فحين تكلمت في كواليس الدورة بضرورة الالتفات إلى ما يتحدث به الشارع من تنامي تحكّم «العائلة الموسّعة» في شؤون البلاد وانتشار رائحة الفساد والمحسوبية، أعطى سليم شيبوب تعليماته لعبد العزيز بن ضياء، الأمين العام للتجمع آنذاك، بإقصائي فجأة. وفي ظرف 24 ساعة تمت إحالتي على التقاعد المهين من إدارة التجمع مع التنكر لرصيدي الوطني النضالي ومع السعي إلى جعلي إنسانا بلا تاريخ وهو ما شكّل مظلمة صارخة وألما عميقا. ولصرفي عن اعتزامي نشر «كتاب أبيض» كتبته سنة 2000 حول هذه المحنة حاولت القوى الظالمة إرشاء سكوتي بأن عرضت عليّ رخصة منفعية أو ضيعة فلاحية، وهو ما حاوله معي علي الشاوش الأمين العام للتجمع وقتها. لكنني صمدت بكل إباء وحاولت نشر الكتاب سنة 2003 في ثوب جديد بعنوان «نضال ورؤى»، قدّم له الأستاذ الهادي البكوش مشكورا، لكن الهادي مهني عضو الديوان السياسي للتجمع ووزير الداخلية منع منح الكتاب تأشيرة الصدور. هذا وأودّ أن لا أتعرض إلى ذكر الأشخاص ممن أذوني كما أذوا البلاد وذلك من باب الحياء وعدم التشفي، فأغلب هؤلاء الآن خلف القضبان أو قيد التحري معهم أو تلاحقهم الشرطة الدولية. وعلى أية حال، تضمن الكتاب بالخصوص تحليلا مركّزا ودقيقا لواقع البلاد وأمراضها وأسباب ذلك مع تفصيل الحلول والبدائل المنطلقة من المبادئ الوطنية الأخلاقية والسياسية الكفيلة بوقف التردي واستعادة المبادرة للبناء السليم. هذا من حيث الرؤى. كما تعرّض الكتاب إلى مسيرة نضالي وثلة من رفاقي لأكثر من نصف قرن ولنضال عائلتي عائلة «البودالي» ونضال مسقط رأسي جهة الكاف الأنوفة. وبينت في الكتاب كيف أنني لم أسع إلى منصب أو مغنم، بل عانيت المحن من بعض الذين كانوا على نقيضي ورفعت التحديات بجدارة ونظافة. مظلمة التجمع لدستوري حرّ وعلى مدى 12 عاما عشتها بين مماطلة التجمع الحاكم وبين التقاضي ضده، نشرت بمساعدة بعض الأصدقاء كتابي «نضال ورؤى» ثم على التوالي مقالات رأي، مساهمة متواضعة في جهود الاستفاقة حول مواضيع حساسة تخص: المبادئ والثوابت والاصلاحات السياسية اللازمة. ومنذ انطلاق القضية العدلية في شهر سبتمبر 2006 عانيت الأمرين لأنتصر على ظلم التجمع ورموزه وأدواته حتى صدر حكم التعقيب النهائي في أوت 2011 بإلزام التجمع الدستوري الديمقراطي المنحلّ في شخص ممثله القانوني بأن يدفع للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المبالغ المستوجبة عن الفترة من غرة أفريل 1967 إلى موفى أوت 1987، وبإلزام الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بتعديل جراية تقاعد المعني بالأمر مع الأخذ بالمفعول الرجعي. وقد استبسل الأستاذ المحامي رياض الوسلاتي، ابن مناضل دستوري، بعزيمة وتحدّ دفاعا عن حقي في التسوية دون يأس، رغم تردد القضاء وهروبه ومماطلته، رهبة من التجمع الحاكم حتى مرحلة التعقيب وللمرة النهائية في صالح إثبات حقي. والتسوية اليوم بين يدي لجنة التصفية بوزارة أملاك الدولة. كل ذلك لم يكن ليتحقق لولا ثورة 14 جانفي بقيادة الشباب والتفاف الشعب، ثورة أطلقت بها تونس «ربيع العرب» وشقت طريق افتكاك الحقوق والحريات والديمقراطية، فأظهرت نضجا سياسيا رائعا أبهر العالم، حين رفض الحكم الفردي والطغيان أيا كان مأتاه. وثورتنا الآن في طريقها لتكريس سيادة الشعب ورفع التحديات الكبرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية. سقوط التجمع والتصور المستقبلي بالفعل، بعد نحو تسعين عاما آل أمر حزب الاستقلال إلى أن افتكّه التجمع ثم إلى السقوط في نهاية مؤلمة وحتمية، وهو أمر يدعو إلى إذكاء التأمل والتفكير. لقد أدى الزيغ والحيف إلى إضاعة فرص ضخمة لتقدم البلاد وازدهارها وكان الأسى شديدا لما باتت تعيشه فئات واسعة من أبناء الشعب من تهميش وحرمان واستغلال، ولما وصلت إليه الجهات الداخلية ومنها الحدودية وأخص بالذكر جهة الكاف مع تاريخها المجيد وثرائها، حتى صارت تعيش حالا حرجة لم تعرفها حتى قبل نهاية 1986، فقد كانت الجهة ذات مكانة مرموقة في عهود ولاة من أمثال عبد السلام القلال والمنصف بالخيرية وسالم المنصوري ومصطفى بدر الدين مع عدد وافر من أبناء الجهة البررة، ضربنا فيها أروع مثال في التنمية خدمة للإنسان والوطن. إن الواجب الحتمي يتمثل أيضا اليوم في سنّ دستور يقطع كل أسباب التراجع، وإعادة هيكلة البلاد إداريا وسياسيا واقتصاديا وإعادة هيكلة وتنظيم المجتمع المدني وجعل القانون فوق كل شيء مع ضمان المراقبة والشفافية، وإرساء مخططات لرفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية للبلاد بإعطاء الأولوية لكل الجهات المهمشة لخلق التوازن والعدل المنشودين. كما يتعين الابتعاد عن منزلقات فوضى المطلبية الاجتماعية، وتسخير كل قوى الخير والبناء لإنجاح الثورة والنهوض بالبلاد وضمان الأمن والاستقرار المنشود... لأن الوقت مهدور وهو لا ينتظر. وقبل التوصل الى المصالحة الوطنية، لا بد من إعادة قراءة التاريخ في صورته الحقيقية بعد التخلص من كل الشبهات والمغالطات والتزييفات والنرجسيات بإعطاء كل ذي حق حقه في وضوح وشفافية. كما يجب ردّ الاعتبار لكل من ساهم في بناء الدولة ومناعتها والمجتمع والثورة والانسان بصدق وتضحية ونظافة، بعد المحاسبة العادلة لكل من أساء الى العباد والبلاد، حينها تكتمل منظومة العدالة والمصالحة على الطريقة «المندلية» في جنوب إفريقيا بعد حرب التحرير من الميز العنصري على نحو ما يدعو إليه الاسلام منذ 15 قرنا، وأسوة بسيد الخلق في تعامله الرفيع مع أعداء الأمس. وأنا من الذين يعتقدون أن ثورة 14 جانفي لن يكتب لها الرسوخ بلا خوف من الانتكاس والارتداد إلا بالانصياع لإرادة الشعب وتوقه الى الأفضل، وبرفع راية البلاد في هذا العالم، بالعلم والمعرفة والعمل والانتاج والانفتاح والاعتزاز بالجذور ضمانا للاستقرار والأمان الشامل. إن إرادة الشعب من إرادة اللّه العليّ القدير وتلك هي عقيدتي، والحمد للّه الذي ثبّتني وأنا عبده الضعيف على الطريق الصعب بالايمان والاستقامة، ما ساعدني على المحافظة على أمانة المسؤولية والاخلاص في العمل بروح وطنية ونظافة. وما أنعم به من راحة ضمير يعرفه الجميع، كشافين ورياضيين وشباب وفلاحين ومناضلين جمعتني بهم ملحمة مباركة منذ أوائل الاستقلال وأحمد اللّه ثانيا أنني لم أعرف خيبة وسأبقى على حالي دستوريا مستقلا. وأحب في ختام هذه الشهادة المتاحة أن أردّد تلاوة الآية القرآنية ذاتها التي رافقت دربي وكانت لي البلسم طوال محنتي، ذلك أن فيها من الحق والوعيد والوعد ما فيها. بسم اللّه الرحمان الرحيم {وَعَنَت الوُجُوه للحَيّ القَيُّوم وَقَدْ خَابَ مَنْ حََمَلَ ظُلْمًا وَمَنْ يَعْمَلْ منَ الصَّالحَات وَهْوَ مُؤْمن فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا} صدق اللّه العظيم.