يتسلل سؤال الكتابة إلى إعماق الذات ويدخل دهاليز الطفولة ويسمح لي بالنظر في تلاوينه في فترة البدايات أي قبل سن العشرين. حينما أستعيد هذه الفترة أتيقن أنني في الماضي كنت أطرح السؤال بإلحاح كبير. إذا كنت أمام خيارات إبداعية كثيرة بين أن أرسم حيث تمرغت أصابعي في الألوان وبين أن أكون ممثلا في المسرح أو السينما حيث شاركت في أعمال مسرحية في عهد التلمذة. كنت في سن السادسة أصعد إلى بيت الجيران لأقضي أغلب المساءات في مرسم الفنان النوري دمق فأعبث أحيانا كثيرة بالأصباغ وأتملى لوحاته كأنها تخطفني إلى عالم حالم وبقيت لأشهر عديدة ملازما لخلوات الرسام ولا أستيقظ من انخطافي إلا متى أسمع صوت أمي تناديني من الأسفل ولما انتقل الأستاذ النوري إلى بيته الجديد أحسست بفقدان هواء استثنائي، لكن حدثا جميلا حل حيث افتح أحد الخطاطين الماهرين محله في نفس الحي الذي أسكنه. كان هذا الشخص مثل غبش في ذاكرتي حيث لم أعد أستحضر إلا لقبه وهو «كعنيش» ولم يكن مجرد خطاط بل ورسام أيضا وكان محله يمتد على مساحة كبيرة، أشبه برواق فن يعلق فيه لوحاته وأذكر أنه كان يشتغل على المساحات الكبيرة. فعلا لم أعد أذكر من هذا الرجل غير انكبابه على العمل وغير رحيله المبكر من المكان وقد أشيع أنه سافر إلى أوروبا لاتساع الأفق هناك. كنت في العاشرة مشاركا في المسرح التلمذي ومهتما بسينما الهواة وكثير التردد على نادي السينما. كانت الصورة تأخذني إلى الأقاصي. لم يكن باستطاعتي أن أقضي أسبوعا واحدا دون أن أنفلت بعيني إلى عوالم عديدة وحين كنت سأمثل دور البطولة في شريط «البرويطة» ضمن نادي السينما «هاني جوهرية» حلمت طويلا بأحداث الشريط وبدوري فيه لكن والديّ منعاني من ذلك وتبخر حلمي، لكنني بقيت إلى اليوم شغوفا بتلك الأحلام وأرى الكتابة مجرد سلعة بائع متجول، سلعة مهربة وممنوعة ولاتباع في الدكاكين العمومية وهي تحت طائلة الرقابة دائما. بين الرسم وبين فن التمثيل تسللت الكتابة إليّ. ولا داعي لأن أقول بأنني وجدت نفسي في الكتابة بمعنى أنني فتحت عيني عليها. فلقد كان اسمي حمالا لها. فعلا دخلت عالم الشعر من الاسم. وتبجحت بهذا الاسم في طفولتي دون أن أدري لعنته اللاحقة ولم أعرف الشعر إلا من خلال نزار قباني إلا أنني عرفت اسمه وصفته قبل أن أعرف شعره. وكنت أمضي باسمه أحيانا دون أن أدرك بأنني أوقع بداية رحلة قاسية. وحين حاولت الكتابة في أول طفولتي لم أدرك أن هذه المحاولة هي اقتطاع لتذكرة سفر دون عودة. وظللت أكتب مكتويا بلوعة الحرمان من الرسم ومن التمثيل وهاربا من تبعات اسمي. التصقت الكتابة بحياتي حتى صرنا لا نفترق كأنه لا يمكنني أن أجد نفسي خارجها. وحين كنت أفر من نفسي أسافر فيها وإذا بي أقع مجددا في ذاتي ولكنها لم تكن مفردة إذ أنها ذات الجماعة. لقد بدأت الكتابة بلعب طفولي سريعا ما تحول إلى حياة دائمة. كأنني اخترت اللعبة وفقدت حدود السيطرة على حركتها ونزواتها ونزيفها المسترسل. في أحد الأيام خلت الكتابة مرض الجذام وخلت الكاتب مجذوما. إذ مع مطلع كل يوم أنشد العافية ولكن الكتابة تستفحل وكل يوم أنصت إليها في محاورة قاسية. فالكاتب كائن اجتماعي في واقع نثري بامتياز والكتابة اتصال بشعرية غائبة. تلك ارتسامات البدايات حيث كانت الكتابة وسيلة لعب في الطفولة واستمناء في المراهقة وبحيرة صغيرة قبل سن العشرين، املأ فيها أحزاني وأحبر فيها غرامي وأبلل فيها أسماء حبيباتي وأضع فيها السفن الورقية لأحلام تغيير العالم. في كل هذه البدايات كانت الكتابة ضدية، موجوعة وشبه سرية. كانت الكتابة مشروعة في أيام العطل فقط والمثير أني بقيت أكتب غير آبه بهذه الحدود. لقد كان والدي يشجعني على الإلقاء منذ سن السادسة وكثيرا ما أضحكت زملائي في قاعة الدرس حين كنت ألقي المحفوظات بإلقاء تمثيلي. لقد كنت مدفوعا إلى الانشاد ومطالبا بتأجيل الكتابة، لكنني كتبت ضد تأجيل الحب، ضد تأجيل ممارسة الحياة وضد تأجيل ممارسة التفكير في الأسئلة. قبل الشعر شرعت في كتابة المذكرات، فكنت أسجل احداث اليوم بكل ما فيها من فرح وحزن، وشخصيات وأمكنة، وكانت ذاتي تتمركز شيئا فشيئا. في كل سنة جديدة أتحصل على كراس المذكرات السنوية (الأجندة) فأخط عليها يوميا ما عايشته من شقاوة ومن مشاهدات، أوراق الكراس كانت مخططة، إذ أني لم أواجه الورقة البيضاء إلا في طور متأخر وتحديدا أيام الدراسة الثانوية. لقد رأيت العالم مفتضا بالخطوط منذ البداية، فأن أكتب آنذاك معناه أني أقف على الخطوط وأجعل الحروف تراقص الحبال مثل البلهواني، ولكني خبرت البياض كلما حنوت بالألوان على ورقة الرسم. كانت الكتابة فعلا في الذاكرة محاولة لطرد النسيان لكن المذكرات جعلتني أتوغل في النفس، وأعتكف طويلا عن العائلة وحينها تحققت فجوة الاندماج الكلي في الوسط العائلي، وتحققت المسافة وتعلمت أن أرى بعين ذاتية موغلة في طقس نفسي خاص، تفاصيل الحياة فأخزنها في الذاكرة، وبدأت أتمرد، وأكتب التمرد وأخرج عن الطاعة وأكتب سطور الخروج. في كل مرحلة تأتي أجوبة مختلفة عن سؤال الكتابة. وهي أجوبة غير نهائية، فإذا كانت الكتابة تعني ملجأ للروح في الطفولة ومدارا للذات فإنها تخرج بصاحبها إلى آفاق جديدة تهفو به إلى عذابات الآخرين وتنقله من مكان إلى آخر ومن رقعة دامية إلى أخرى فتتصل بقضايا الإنسان، ويكون التورط مضاعفا حيث تكبر أسئلتي الصغيرة في الحديقة الجرداء وتسافر إلى غابات تتشابك فيها الأشجار فيصبح السؤال أكثر احتراقا ومواجها أيضا. فالغابات معرضة دائما لحمى الاقتلاع والاحتراق، وما الكتابة غير حياة في ظل تهديد مسترسل، تهديد بالتصفية. في الحديقة الخاصة، تكون بعيدا عن الصراع، وبدخول الغابة أدركت كيف تتحول رائحة الورد إلى روائح كريهة وأن الكتابة مضطرة إلى إعلان وجودها في المزابل والمستنقعات. في الغابة عرفت أن العائلة الحضارية التي أنتمي إليها بالوجود الجغرافي في طريقها إلى الانقراض. وعلمتني الكتابة كيف أنظر إلى الزلزال الحضاري ولا أبقى مشدوها. لكن الكتابة لم تلدها هذه المواضعات فحسب. فحين أستعيد لحظات البدايات أقف على شأن القراءة وربما دفعت إلى الكتابة لأنني قارئ شره ومصاب بحمى القراءة. فان تقرأ للآخرين بصمت وخشوع ولذة هو أن تقبل بانتقال إثم الكتابة إلى كيانك، وبدل أن أستضيف الكتّاب إلى عالمي القرائي أسحبهم إلى نصي المكتوب وأواجههم وربما أصفيهم بدوري وأخفي جريمتي. وتضحي كل كتابة شعرية جريمة عذبة وكل فعل نقدي لاحق تلويحا بالعقاب.