تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقف التونسي بين المقهي والكتاب: شهادات
نشر في الوسط التونسية يوم 16 - 07 - 2007

تحول المقهي من ظاهرة اجتماعية إلي تجربة فنية عند بعض الأدباء والمثقفين وصار فضاء سرديا أو شعريا عند هذا الشاعر أو ذاك الروائي، فهم يتذكرون بمحبة وفخر النصوص التي كتبوها في المقهي وعلاقتها بالزمان والمكان. وتجمع كل الآراء تقريبا علي أن المقهي فضاء رئيسي من فضاءات الثقافة التي ينظم فيها العمل الثقافي ويفكر فيها في الشأن الثقافي ويمارس فيها النشاط الثقافي وينتقد فيها الشأن الثقافي وتخرج منها مشاريع وأفكار للنهوض بالعمل الثقافي والاختيارات الثقافية. خرج المقهي من شكله القديم ليصبح أهم الفضاءات الثقافية عطاء بعد أن ثبت انه فضاء اجتماعي وسياسي واقتصادي. هل سحر المقهي هو الذي أثري التجارب الإبداعية بعد أن ثبت أنه ضرورة للأديب والمثقف الذي لا يستطيع العيش بدونه؟ وتنبع هذه الضرورة من حالة التأمل وإنجاز الكتابة التي ربما لا يستطيع الكاتب إنجازها في البيت، وأصبح المقهي يمثل متنفسا للضغط النفسي والتخلص من الجدية والصرامة الزائدة في حياته؟ ما الذي يسعد المثقف وهو يجلس في المقهي أكثر... الجريدة.. المجلة.. الكتاب.. الأصدقاء.. أم الشارع؟
ففي المقهي يركز الرواد علي قراءة الجريدة مما جعلها تصبح إدمانا يوميا.
وهل يخلق المقهي ثقافة ذات ملامح محددة في أعمال المثقف المنتج؟ أم أن بإمكان المقهي أن يعوض مكاسب الكتاب المعرفية؟ وفي المقابل هل نستطيع أن نتعرف علي المثقف الذي لا يؤم المقهي من خلال إنتاجه الثقافي؟
هل المقهي الثقافي ظاهرة عربية أم ظاهرة عالمية؟ وماذا عن تلك العلاقات العريضة التي تشكلت بين رواد المقهي من المثقفين وبين نادل المقهي ؟ فكم من نادل كان البطل رقم واحد في روايات عدة، وماذا يعني النادل للبعض الآخر هل هو مجرد رقاص ساعة يغدو ويروح في فضاء المقهي ؟
المقهي بين غاد ورائح
من أراد مقابلة الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر الأديب التونسي صاحب الإنتاج الغزير في عالم السرد فعليه أن يقصد مقهي أبو نواس بالعاصمة تونس وحتما سيجده هناك، يحتل ركنا أنيقا يستقبل فيه ضيوفه من أدباء وصحفيين، وتقوم علي خدمته نادلة سمراء يناديها باسمها وكأنه يعرفها منذ زمن بعيد.
عن علاقته بالمقهي يقول هذا الروائي:
المقهي ، عالم عجيب، ملاذ إذا أردت، استراحة المتعب من السير عبر الأنهج والأزقة، مكان للتأمل والنظر في الناس والأشياء. ليس أجمل من الجلوس في ركن دافئ، أيام الشتاء في مقهي لاحتساء قهوة سوداء دون زيادة في السكر أو نقصان، وليس أجمل بعد ذلك من النظر عبر البلور إلي المطر ينزل علي الإسفلت، إنها باريس، علي جانبي شارع سان ميشال ، والأنهج المتفرعة عنه، حيث المقهي عادة جميلة يمارسها الشاعر والقصاص والصحفي ورجل الشارع. أتذكر مقهي رائعا في نهج سوفلو بباريس كنت أجلس فيه، أخاطب البخار المتصاعد من فنجان القهوة، وأتصفح جريدة لوموند ، كلما كان في الجيب ثمن القهوة والصحيفة. من خلال بلور المقهي أتطلع إلي ساحة البنتايون Pantheon حيث يرقد عظماء الفكر والثقافة والأدب، أولئك الذين أعطوا عصارة تجاربهم وتأملاتهم وصاغوا آراءهم من أجل تجديد خلايا المجتمع، وتغيير النظم البالية في السلوك الاجتماعي، والممارسة السياسية والتعامل الحضاري، وبناء علاقات جديدة تتماشي ونبض العصر. الشعر كان أداة صراع وتغيير، والمسرح أيضا والرواية والقصة والرسم والنحت، والموسيقي والغناء. حضارة أسست علي قواعد الفكر المتحفز والمواجهة بالكلمة المسؤولة.
المطر علي الرصيف، والمطريات تتزاحم فوق الرؤوس، والناس يسعون وراء الرزق. وأنا جالس وبخار القهوة يتصاعد ويتبخر في فضاء المقهي ، والرواد يأتون علي عجل وينصرفون علي عجل، البعض يلقي القهوة المرة في جوفه برشفة واحدة. في أحد الأركان شاب وفتاة، عاشقان يتناجيان، والنادل ينتقل بخفة الحمام الزاجل بين الطاولات، أنسي القهوة أمامي، أضع الصحيفة جانبا، وأبسط ورقة بيضاء وأشرع في الكتابة.
أنا في تونس، في مقهي شعبي، موسيقي صاخبة تملأ المكان، ومجموعات تلعب الورق ومجموعات تتفرج، ضرب علي الطاولات، وكلام متداخل وصياح،أحيانا تشابك بالأيدي، هذا يجعلني أغوص في صياغة أحداث قصة، أرسم ملامح الشخصيات أستعين ببعض لاعبي الورق، تتطور مجريات القصة من خلال حركة اللاعبين وأطوار اللعبة. قد أغادر المقهي دون أن ابرح مكاني، أتتبع خطوات أحد اللاعبين المهزومين، أو المنتصرين أطرق باب منزله وأتجول في أنحائه.. أحدق في ملامح زوجته وأبنائه، أستشف التعب في الأحداق، وراء كل حدقة قصة وصراع ومتاهة. أسافر في المأساة التي تعبر عنها الأصابع المتشنجة للاعبي الورق أو حركة ارتشاف القهوة والشاي، أو إصرار الشفتين علي امتصاص عقب السيجارة.
المكان الأول للكتابة بعد المعاناة هو المقهي ، وكثيرا ما أجد نفسي مندفعا وراء الأفكار، أجري وراء ذؤابة القلم التي تلهث علي الورق والعرق يتصبب لكن السير يظل متواصلا وكأنه سير علي أرض لا نتوءات فيها ولا حفر ولا أخاديد.
كم ساعات قضيت في أمكنة لا صخب فيها ولا حركة، أحاول أن أكتب فتتعطل حركة الكلمات، حتي أحسبني أحفر في الصخر بأظافري. أولي رواياتي الزيتون لا يموت والتي توجت بجائزة هامة وهي مبرمجة حتي الآن ضمن روايات المطالعة عند أبناء المدارس الثانوية، كنت أنجزتها داخل مقهي وفي زمن قياسي وبقيت أحب النصوص إليّ.
ربما تغير الحال، بعض الوظائف التي مررت بها وبعض الأماكن التي حللت بها ثم رحلت عنها، الوجوه التي تعاقبت أمامي منها ما بقي في النفس ومنها ما غاب عن الذاكرة، الأحداث الوطنية والقومية التي ارتسمت أصداؤها في القلب والخاطر، محاولاتي المتكررة للخروج من جلدي والبحث عن البديل.. الخوف من الثابت الذي لا أساس له أو الهروب والمواجهة والتأمل والانكماش، والصراع والأسئلة التي لا أجد لها ردا.. كل هذا جعلني أبحث عن الأمكنة الهادئة وعن زوايا يقل فيها الضجيج والحركة.
انتقلت إلي نوع آخر من المقاهي ، دون أن أقطع الرابط الذي يربطني بأيام الإبداع الأولي. وتلك بصمات بقيت في القلب والوجدان، أمر أمامها كما يمر الحبيب العاشق بالأطلال. ما أكتبه اليوم يرتبط بقضايا الإنسان في هذه المرحلة الحرجة من حياتنا العربية، أستقي مادتي من هموم المرء الذي يرزح تحت أثقال العولمة والغزو الثقافي، والتهديد بوجوب تغيير الهوية والقيم ومناهج الحياة وملامح التاريخ والحضارة والدين بالقوة.
الأمكنة التي آوي إليها لأقول ما يختلج في صدري أمكنة تفرضها طبيعة الهموم. الآن أحدق في مظاهر تتنافي ومظاهر الزمن الماضي، زمن المدن ذات الشوارع الفسيحة، والساحات الهادئة حيث الكل يجد مأواه وضالته دون زحام ودون خوف من اللحظة القادمة، أحدق فأتعجب.
وإذا كانت الأحداث التي نعيشها تتفاقم عنفا وقسوة كل يوم جديد، وتتحول إلي مطارق حديدية تقرع رؤوسنا، فإن ساحل الأمان لكي نكتب ونفكر يصبح هو المقهي الهادئ الذي لا يؤمه إلا زوار قليلون ولا تستمع فيه إلي صلصلة الكؤوس وأزيز الملاعق وصياح النادل.
أرأيت كم أنا في زمن الضجيج ابحث عن الصمت والسكون، خلافا لزمن الهدوء حيث كنت ابحث عن أوج الحركة والغليان. ليس هناك تناقض أبدا، إن الظواهر لا تعني بالضرورة حقيقة النفوس، ولا تعني ما سيكون عليه الواقع بعد ساعة أو يوم أو سنة، والكاتب، خاصة إذا كان قصاصا، روائيا، شاعرا، أو مسرحيا، لا يعنيه غير البحث عما يكمن وراء الملامح. ومن أجل ذلك يظل يبحث عن الزاوية المناسبة التي تمكنه من النظر علي ما تحت السطح، و المقهي ، حسب الحال، أنسب مكان لاستجلاء حقيقة الحاضر والمستقبل.
فيا مقهي ، ستظل قبلة المبدعين، وسيظل المبدع بين رائح وغاد، يرتشف القهوة، ويحدق في الوجوه، ويكتب ما تفرزه الأحاسيس والمشاعر.
الكتابة ... المقهي والذاكرة المسكونة
الكتابة بين المقهي والذّاكرة المسكونة، يتحدث عنها القاص والباحث كمال العيادي المقيم بمدينة ميونيخ الألمانية. وعن تجربته والمفارقات التي عاشها بين مقاهي القيروان وتونس وألمانيا وموسكو، يقول:
يخيّل إلي أحيانا، أنّ كلّ ما يكتبه الكتّاب والشعراء، إنّما هو من بعض بقايا ُفتات الإبداع المنثور فوق موائد المقاهي الخشبيّة. ان المقهي يمثّل الغرفة الأرحب في قلب المبدع. فهي عالمه الضيّق حينا، والمتّسع أحيانا. بديل عادل عن طاولته بالبيت، المحددة بأربعة مقاعد، تضيق مسبقا بضيف خامس، وإن اتّسع له قلب المضيف المبدع. ففي المقهي ، وجوه تتدافع بجدل في ممرّات عالمك الشخصيّ دون أن تضطر لشدّ جرس الباب، وطلب الإذن بالدخول. إطلاقا لا يزعجك ذهابها دون تسليم، ولا حلولها دون تحيّة. مملكة خاصة لا يشاركك في ملكيتها أحد. رغم كثرة ملاكها. فكل الروّاد شركاء، وكلّ يدعي علنا بأنّها بيته، دون شعورك بضرورة الدّفاع عن ملكيتك، مملكة لا تضيق بتعدد مالكيها وملوكها، وكلّ كرسي فارغ بها يشحذ قلبك رغبة في أن يمتليء بمالك جديد، وجليس ينازعك عن حبّ وأريحيّة ملكية ما تملك. فالشركاء شرط لوجودك فيها وسبب لبقائك بها. عالم لا تختار شخوصه، وهو فرصة لردّ الاعتبار للكرم البديهي في أعماق وجبروت ذاتنا الأصيلة رغم نزق الوقت والمادة.
وكيفما كان حضور المقهي وأينما كان موقعه الجغرافي، بين بلد وآخر فهناك بالتأكيد قواسم مشتركة وثابتة لا يمكن عدم الانتباه لها، فهي مدارات لتفاعل الماضي بالحاضر، وصورة مصغرة تمكّن من رصد الواقع والخبرة الحياتيّة للمجتمع. وفرصة للمّ الذكريات وشحذ العواطف بكل أبعادها من الحب إلي الكراهيّة مرورا باللامبالاة. وهي كذلك حافظة الطرائف والنوادر والحكايا الجميلة البريئة أو الماكرة المسيئة. ولا يمكن أن يخلو مقهي من روّاد من أولئك الذين يرشون في أجوائه توابل الحكايا وملح الأخبار التي تؤذي في بعض الأحيان ولكنها ضرورية لاستقبال الصباح الموالي بأكثر دربة وخبرة وحياة. ولا أظن أن مقهي ضاق يوما بشاعر متسع القلب، إنّ كلّ أباطيل التشنجات العابرة لا تؤذي جوهر روح المبدع الأصيل ذلك أنّها بعض منه.
وقد كانت المقاهي دوما شريطا لاصقا بالواقع الخارج عن جدرانها الأربعة. تدجّن فيها الأخبار وتفرغ مع بنّ قهوتها وحشيشة شايها رغبات المثقفين الفاعلين والكسالي الخاملين الذين يتخذون من طاولات المقهي بديلا لفشلهم الآني أو المزمن. فهناك فقط يصطف جنود السرد البكر الآسر بثبات لضرب مواقع الصمت وبؤس السكون. والكتاب عموما هم أكثر المنتفعين من فضاءات المقاهي . ولعلّ أجمل الأشعار والحكايا، هي تلك التي نقشت في ذاكرة الجليس قبل نقشها علي بياض الورق. فاختلاط الروائح من عطور قاسية ودافئة وحوامض الأجساد الطيبة والمكثفة واختلاط طبقات الأصوات والهمهمات والأسرار التي يسبق إذاعتها طبق الإغراء بلفظ أرجوك هذا سرّ. والإحساس اليومي بالمغامرة، فأنت لا تعرف بمن ستلتقي اليوم، جليس رائع يملأ قلبك بهجة وامتنانا، أو آخر يعكّر أحواض مزاجك. في بيتك تفتح لمن تشاء أما في المقهي فأنت الصاحب الضيف. وحيّزك مغلق بحدود طاولتك، لكنه في نفس الوقت مفتوح لنفس السبب.
لقد كان المقهي لذلك أينما كان، وكذلك شروط كينونته تكاد تكون رغم توزعها واحدة. حتي أنّني لا أعتقد أن هناك خلافا جوهريا بين المقهي الذي أرتاده بميونيخ أو ذلك الذي كنت أرتاده بموسكو خلال فترة الدراسة الجامعية الأولي. هناك اختلاف ظاهري يخدع الغافل عن الأصل، مثل اختلاف شكل تصفيف الكراسي والطّاولات ومواعيد الفتح والإغلاق ونوع الموسيقي المصاحبة ولباقة النادل أو نظافة المكان ومنفضة السجائر. أما إذا حدث وقشرت غشاء الشكل الملوّن فإنك واقع علي تشابه يكاد يكون التطابق نفسه.
كنت منذ سمح لي بالجلوس المبكّر بمقاهي مدينة القيروان أشعر بأنها بيتي الحقيقي الدّاكن. وحتي قبل ذلك بسنوات طويلة وأنا طفل يتجنّب الأكبر سنا بقليل اصطحابه لأنه لا يسكت، كنت ألقي بدرّاجة الهواء علي الرصيف البعيد عن بيتنا لأسترق النظر منبهرا بحلقات النقاش الكبريتي الساخن التي كان أبي رحمه الله طرفا فيها، حتي أنّه كان يعرف ذلك، وحين تنكّد عليه أمي فيما بعد وتهدد كعادتها بالصيام عن الكلام لأيام وهو أقسي عقاب لجميع سكان بيتنا، كان يقول إن المقاهي للرجال، يقولها مضخمة بنوع من النخوة التي أورثني إياها مع كل الديون الأخري فيما بعد. كان أبي ساردا باهرا، وكان يذهلني وهو يتلاعب بمعاني الكلمات. وحين كنت أعبس كان يأمرني جادا بأن أحلب له ناقة الابتسام وأشرب قبله لتنفرج شفتاي.
بعد ذلك وحين بدأت أول العروق السود تضايق الزغب الأصفر في وجهي، متوثبة مع قوافي المتنبي وجرير والفرزدق، اكتشافاتي المبكّرة قبل أغاثا كريستي وأرسين لوبين، كنت أتوغّل بعيدا عن الأحياء القديمة وأتابع برهبة من بعيد الشاعر جعفر ماجد وهو يلوّح بيديه في حين كان الشاعر نور الدين صمّود يسند ذقنه بسبابته. كنت لا أسمع ما يدور من حديث رغم أنّه كان بإمكاني أن أقترب أكثر ولكنني كنت أرتجف من الرهبة، كنت أحس الشعر أدغالا أشدّ كثافة من مرتفعات الأمازون. وكان للكلمات بخور عابق مليء بالغموض والأسرار. كنت أشعر أن المعاني فخاخ تصطاد الغافلين. لذلك لم أتجرأ إطلاقا علي الاقتراب.
وبقيت إلي اليوم مسكونا برهبة المقاهي . حتي أنني كنت حين أعود لمدينة القيروان التي فقدت في الأثناء أكثر أسرار طقوسها قدسيّة عندي، أتجنّب الجلوس عند تلك الطاولة حيث كان يتحلّق الشعراء الإخوان الشاذلي العلاني ومحمّد مزهود ونور الدين صمّود وجعفر ماجد وفيما بعد المنصف الوهايبي ومحمّد الغزي وصلاح الدين بوجاه وعبد الجليل بوقرّة وغيرهم.
حملت الكرسي الفارغ الذي لم أجلس عليه أبدا بذلك المقهي ، عند تلك الطاولة معي كامل الوقت في حقائب ذاكرتي المبللة بعسل القرآن وحليب القوافي الطازج وأخذته معي إلي كلّ المدن المليئة بالصقيع أو بالألوان. وكان يحدث كثيرا أن يفتقدني أصدقائي بموسكو في حين كنت أضرب في الأرض الغريبة باحثا عن مقهي معزول. وكتبت أجمل نصوصي التي أضن بها عن النشر. وكذلك فعلت ببودابست وبحي البالفي بباريس و مقهي ساحة غاري بالدي بإيطاليا. و مقاهي الإسكندريّة والحسين والأزبكيّة وبولاق. وقبل ذلك كان أول قصيد أكتبه بتونس العاصمة وأنا أحطّ رحالي بأول مقهي أعجبني، وحين يألفني نادل المدينة، أجلس بالمقهي وأتابع في صمت، امتلاء منفضة السّجائر...
وفي مدينة ميونخ أيضا، حيث أمارس حق المواطنة وأتحايل علي البقاء نقيّا رغم حنيني للصخب أحيانا، كان المقهي وسيبقي موطني بين حدود الأوطان التي تستوطنني. غيّرت المقهي الذي أرتاده ثلاث مرّات، كان المقهي الأول بشارع الأتراك الذي سمي كذلك ربما لأنه الشارع الوحيد الذي لا تصطدم فيه بتركي واحد. كان اسمه مقهي الأونسويفايتا وترجمة اسمه الحرفيّة (إلي آخره..) ظللت أرتاده لسنوات صحبة قاص تونسي. وكتبت علي طاولا ته أحلي القصص التي تبكيني وتضحكني إلي اليوم. ثمّ غادرته آسفا بعد أن استحالت معاشرة ذلك القصاص.
من النادر جدّا أن أكتب بعيدا عن المقهي ، في البيت أرقن بضجر ما أسوّده بالمقاهي علي بياض الورق. المقهي الذي أرتاده اسمه مقهي العالم ويقع تماما في منتصف شارع شفانتالا شتراسيا. خلال شهر رمضان المبارك أغيّر المقهي . لأنني أحب سماع القرآن بمقهي إبراهيم المرّوكي بالمنطقة الجنوبيّة. ألعب الورق ولا أكتب. وأخاصم جليسي من أجل بطئه في رمي الأوراق، ونضحك عاليا حين ينهي أحدنا اللعب منتصرا.
في تونس لا أكتب في المقاهي إطلاقا، وأفكر في صلح جديد مع مقاهي تونس والقيروان. ربّما أحتاج فقط إلي بعض الوقت لإيجاد صيغة للسكينة. قد يأتي الوقت الذي أغير فيه طقوسي في الكتابة. أنا أحب التعلم والإمكانيات المفتوحة. ثمّ إنني لا أتعمّد النسق بقدر ما أحاول استنزافه بشكل ما أما الآن فهناك مقاهٍ كثيرة يجب أن أرتادها وآلفها ما استطعت .
فضاء للثقافة ام السياسة؟
سألت المخرج والكاتب المسرحي كمال العلاوي: هل ثبت إذن أن المقهي فضاء ثقافي بعد أن كان فضاء سياسيا؟ فرد بقوله:
أنا من أولئك الذين يترددون علي المقاهي ويقضون الساعات من أجل تحرير بعض الصفحات سواء المسرحية أو المقالات الصحفية أو المذكرات. هذه العادة اكتسبتها منذ نهاية الستينات من القرن الماضي في تونس العاصمة، ثم حملتها معي في كل مدينة أعمل بها.
طبعا ريادة المقهي ليست أمرا جديدا، فأنا أعرف مثلا أن بالحي اللاتيني بباريس كان سارتر وجان جينيه وادموند وميشيل فوكو وحتي عبد الرحمن بدوي يترددون علي المقاهي ويخرجون بكتابات وأحيانا ببيانات تخص مواقفهم من عديد القضايا السياسية منها والفكرية والاجتماعية، كذلك الأمر في عديد البلدان العربية حيث يلتقي الشعراء والأدباء يتحاورون ويختلفون في الرأي ويتخاصمون، ومن خلال كل هذا تمتلئ صفحات المجلات وأعمدة الصحافة بمادة تثري الأدب والفكر والفن. في تونس السبعينات مثلا كان هناك تطاحن إيديولوجي فاليسار بمختلف اتجاهاته واليمين بمختلف اتجاهاته وحتي الحياديين أو أولئك الذين لا يؤمنون بدخول البوتقات، كل هؤلاء كانوا يلتقون في المقاهي وبالرغم من اختلاف الرأي بينهم فإن ودهم لبعضهم ثابت لأن هذا الاختلاف قد أثري الحركة الثقافية في كل المجالات سواء في الأدب أو الشعر أو المسرح أو السينما أو حتي اتجاهات الحركة التشكيلية والموسيقية. وعلي هذا تطورت الحركة الثقافية بشكل عام لأن المبدعين قد اقتربوا شيئا فشيئا من المواطنين. طبعا في البداية كانت الصور المنقولة في أعمالهم تكتسي صبغة واقعية إلي حد النقل الفوتوغرافي كأن نصور ملامح مساح الأحذية وما تحمله من حزن أو الشيال أو جامع الزبالة أو المومس المتجولة أو سائق التاكسي، طبعا أصبحت هذه الشخصيات في الزمن الراهن تحمل دلالات أخري سواء في مهامها أو عبر الأدوات التي تستخدمها إذ بإمكان المبدع بوسيلة الفنتازيا أن يجعل من الزبالة مادة تنطوي علي أسرار وخفايا رهيبة. ويمكن لماسح الأحذية بحكم احتكاكه بالناس وفهمه لبواطنهم من خلال ظاهرهم أن يجعل من مهنته تغطية لعمل سري فيه مثلا نقمة واحتجاج علي وضعه السيء.
وما ذكرته لك هو تبرير للكتابة بالمقاهي فقد أجد الإلهام من خلال تلك الوجوه والملامح المختلفة التي تعج بها المقاهي وقد أستمع إلي حوارات غريبة سواء من طرف الشيوخ وهم يستعرضون الأحداث السياسية، علي طريقتهم أو يعبرون عن سخطهم علي الجيل الجديد وهو يكسر قيمهم البائدة أو حوار الشباب حول آخر شطحات الموضة في اللباس أو الرقص العصري وحول سهراتهم الماجنة أو حول غرامياتهم وخيباتهم وأحيانا حول نقمتهم علي الكهول، وعدم انسجامهم مع الحياة العائلية... فالقلم مثل عصا الأعمي مرة يرتكز علي أرض نظيفة ومرة علي ارض قذرة.
إلي الآن أكتب بالمقاهي رغم تقلص الحلقات الفكرية بها ربما بسبب التعود، ولكن الحقيقة أنني أحن إلي أجواء المقاهي ... أحن إلي مقهي الزنوج و مقهي المغرب و مقهي الكون وغيرها في العاصمة تونس فقد كانت الطاولة تجمع بين اليساري واليميني والمتطفل والمومس والشرطي والصعلوك وكانت الحوارات تبلغ حدا معينا من الحرارة يوحي بالكتابة وبالإبداع.
الاكاديمي والمقهي
الرجل الأكاديمي هل هو أيضا من رواد المقهي أم أن له رأيا مغايرا؟ بتوجهي إلي الدكتور مبروك المناعي مدير دار المعلمين العليا وأستاذ الشعر القديم عن علاقة الأكاديمي بالمقهي توقعت عكس ما سمعت إذ أن للأكاديميين نواميسهم الخاصة في الكتابة واعتمادهم علي المراجع التي لا تتسع لها طاولات المقاهي ، لكنه ذكر قائلا:
أولا المقهي لم نتعرف عليه كأكاديميين بل تعرفنا عليه منذ كنا شبانا وتلاميذ، واذكر عندما كنت تلميذا بمعهد الصادقية أن هناك مقاهي بين المعهد والعاصمة كنا نذهب إليها قبل الدروس أو بعدها، مثل مقهي الديوان في نهج القصبة بالعاصمة تونس و مقهي الأندلس في نهج جامع الزيتونة، في أواخر المرحلة الثانوية كان يطيب لي أن اجلس في هذه المقاهي أراجع الكثير من الدروس أطالع الروايات والكتب الأدبية والمجموعات الشعرية، وشيئا فشيئا تكونت لي عادة الجلوس في المقهي . جلوس ذو طابع ثقافي وعلمي، وفي السنة النهائية من التعليم الثانوي كنت ومجموعة أصدقائي نفضل الجلوس في مقاهي العاصمة، لان المقهي هو منطقة وسطي بالنسبة لمساكننا نجتمع فيها دون مواعيد، وتواصلت علاقتي بمقاهي العاصمة حتي في مرحلة الأستاذية، وكانت تعجبني هذه المقاهي أكثر من المكتبات وكنت اذهب للمكتبات عندما لا أجد المرجع الذي احتاجه ولكن كلما توفر لي الكتاب أخذته معي واصطحبته إلي المقهي لأن جو المكتبة الهادئ جدا والرتابة يسببان لي النعاس، بينما المقهي يتوفر علي كل شيء، وكان لا يهمني من المقهي إلا ذلك المتر المربع أي الركن الذي أجلس به، أما ما تبقي من أصوات وموسيقي وأناس يروحون ويغدون فهو نوع من الديكور أجعله في خلفية ما أنا فيه، إلي أن أصبحت هذه الخلفية ضرورية. والحقيقة أن المقهي شهد بداياتي الإبداعية من محاولة كتابة الشعر ودراسة الروايات والبحوث الصالحة لإنارة المسائل التي كنت بصدد دراستها في التعليم العالي، والأسباب كثيرة جدا وربما كان أحد الأسباب هو عدم توفر الهدوء في المنزل وكنت أيضا أجد الأصدقاء وجوا من الحرية النسبية في المقهي لا أجده في البيت، جملة من العوامل جعلت هذا الأمر يتحول إلي نوع من العادة، وهذه العادة لازمتني إلي الآن وإن كان الوقت قد قل لذلك. المقهي احتضن مراجعاتي وقراءاتي الهادفة، واحتضن قراءاتي التي كانت علي سبيل المتعة والثقافة العامة بل وهذا أخطر ما في الأمر احتضن المقهي كذلك بعض كتاباتي النقدية وخاصة الكتابة النقدية المتمثلة في تحليل الشعر وفي كتابة النصوص عن النصوص، يعني الكتابة القراءة أو الكتابة الناقدة الواقعة علي منتجات إبداعية وعلي الشعر خاصة، ناهيك أن الجزء الأكبر من كتابي عن المتنبي كتبته في مقهي بمنطقة مقرين بالضاحية الجنوبية للعاصمة تونس لأنني كنت أثناء ذلك اسكن بمقرين وكنت استلذ الجلوس في هذه المقهي الذي كان رواده متنوعين، ولكن ربما كنت أمثل نوعية خاصة جدا من الرواد، فقد تكونت بيني وبين صاحب المقهي والعملة علاقة خاصة جدا جدا وكانوا يستغربون من وجود أستاذ وباحث ومثقف يقرأ ويكتب في مقهي والظاهرة إلي الآن تثير الاستغراب لأنه ترسخ في تقاليدنا الاجتماعية أن المقهي هو مكان للجلوس ولعب الورق والقمار وراحة العاطلين وبعض المتقاعدين والحديث في مواضيع شتي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.