أعترف بأنّ إعجابي بأقوال بعض أعضاء الحكومة أكبر من إعجابي بأفعال بعضهم الآخر! ففي هذه الأقوال الكثير من روح التسامح المنشود (كدتُ أقول المفقود) بل إنّ بعضها لا يخلو أحيانًا من روح الدعابة! تلك الروح التي أزهقها إفراطُ البعض في التجهّم والتكشير عن الأنياب والسيوف والسلاسل حتى كاد أحدُنا لا يُصادفهم في طريق أو في راديو أو على شاشة تلفزيون حتى يحمد الله على السلامة إذا تفقّد أطرافه فوجدها كاملة العدد!
في هذا السياق أريد التوقّف عند التصريح الذي أدلى به السيّد رئيس الحكومة إلى إحدى القنوات العربيّة مؤكّدًا أنّ العنف الصادر عن مجموعات منسوبة إلى السلفيّة يجب أن لا يُقابل بالحلول الأمنيّة وأنّ هؤلاء لم يأتوا من المرّيخ بل هم تونسيّون ولابدّ من مواجهتهم بالحوار.
تصريح فصيح متسامح مُريح يطابق كلّ التطابق ما دعا إليه عقلاء هذه البلاد منذ البداية. إلاّ أنّ جرعة التسامح التي تغلب عليه لا تجد للأسف ما يؤكدّها في الواقع، ممّا يجعلها ذات مذاق قريب من الدعابة.
أمّا الدعابة فمردّها هنا إلى المُفارقة التي غلبت على كلام رئيس حكومتنا المُوقّر! فقد استحضر كوكب المريّخ تحديدًا من بين كلّ الكواكب السيّارة، كي نطمئنّ إلى أنّنا أمام أبناء جلدتنا ولسنا أمام مُحاربين غُزاة!
المشكلة أنّ المرّيخ يُسمّى أيضًا مارس إله الحرب على النقيض من الزهرة رمز الجمال والحبّ. وكنّا نفهم لو كان هؤلاء مريّخيّين فالأمر من مأتاه لا يُستَغرَبُ، أمّا وهم أبناؤنا وإخوتنا القادمون من لحمنا ودمنا، أو من الزهرة في أقصى الأحوال، فكيف نفهم أنّهم يعتبرون كلّ مُصافحة لنا غزوة؟!
وأمّا التسامح فإنّ جرعته هنا أوضح من نار على علَم (على الرغم من أنّ العَلَمَ نفسَهُ لم يَسْلَمْ)! إنّه تسامح منقطع النظير يحسدنا عليه الماهاتما غاندي نفسُه! ولولا الرغبة في إحسان الظنّ بمسؤولينا لقلتُ: كاد التسامُحُ أن يقول خُذوني، على غرار قول القُدامى: كاد المُريب إلخ..!
ممّا يبشّر بقيّة التوانسة بأنّ الفرج قريب وأنّ الحكومة لن تلبث أن تزيح عنها الغشاوة كي تهتدي أخيرًا إلى أنّ الإعلام المستقلّ ليس قادمًا من المرّيخ، وكذلك المعارضة، وكذلك المضربين والمعتصمين المطالبين بحقوقهم!
وما دامت الحكومة قد طاحت للتسامح وشرعت في الصرف الحواري بلا حساب، فإنّ من حقّنا أن نتوقّع انضمام تونس في القريب العاجل إلى الدول المصادقة على إلغاء عقوبة الإعدام! أليس كذلك؟!
لم يجئ أحد إلى تونس من المرّيخ! بهذا شهد رئيس حكومتنا! وأنا أصدّقه! وليس من شكّ عندي في أنّه سيدعو كلّ منظوريه إلى التعامل مع ملفّ الحوض المنجمي مثلاً بالحوار، وبعيدًا عن الحلول الأمنيّة.
ليس في أبنائنا وبناتنا هناك من جاء من المريّخ ولا حتى عدنان الحاجي! العنف مرفوض مهما كان مأتاه وكذلك التحريض عليه. إلاّ أنّه لن يكون من المفهوم طبعًا أن تتعامل الحكومة مع التعبير المجازيّ وكأنّه عنف موصوف بينما هي تتعامل مع العنف الموصوف وكأنّه تعبير مجازيّ!
والحقّ أنّ كلام السيّد رئيس الحكومة كلام معقول يستحقّ الترحيب. شرْطَ أن يسري التسامح على الجميع لا على طرف دون الآخر. وشرْطَ أن يُحصّنَ الحوار لا بالقمع ولا بالحلول الأمنيّة الخاضعة إلى عقليّة الكيل بمكيالين، بل بالعدالة الديمقراطيّة التي تحمي المُواطن مهما كان انتماؤه، وتدافع عن حقوقه، وتعاقب كلّ اعتداء على حرمته الجسدية والماديّة والمعنويّة.