تتباين الآراء والمواقف حول الوضعية الحالية للبلاد بين شق يرى أن الخطر أصبح محدقا بالدولة ومن ورائها الحكومة وشق يقول أن الوضع عادي مادامت البلاد بصدد لملمة جراحها وما دامت الحكومة بصدد تركيز أرجلها. لم يسبق أن قضى التونسيون أياما عصيبة كالتي يعيشونها اليوم.. قلق نفسي ومادي، توتر اجتماعي وعائلي، مخاوف من المستقبل، شكوك في النوايا، غموض في الرؤى.. كل هذا رغم ما يطفوعلى المشاعر، بين الحين والآخر، من احساس بالسعادة ناتج عن ارتفاع هامش الديمقراطية وحرية التعبير والتحرّك، مقارنة بالماضي.
في تونس اليوم، توجد أربعة مشاهد كبرى تدير إليها رقاب المواطنين والملاحظين والناشطين الحقوقيين والسياسيين كلما كان هناك حديث عن هيبة واستقرار الدولة ومن ورائها الحكومة : الأمن والاقتصاد والإدارة والوضع الاجتماعي.
فجهاز الأمن يمر بفترة لم يحدث أن عاشها سابقا من حيث فقدان جانب كبير من دوره في السيطرة على الأمن العام بالبلاد، وجهاز الإدارة يعيش حالة من الارتباك بسبب تعدد الإقالات والاستقالات والتعيينات والتسميات، والناشطون الاقتصاديون يعانون من مخاوف وشكوك ومن صعوبات عديدة حالت دونهم وممارسة أنشطتهم في ظروف مريحة. ونتيجة لكل هذا، تأثر الوضع الاجتماعي العام وأصبح الاحتقان ميزته الاساسية بسبب ارتفاع عدد العاطلين وغلاء المعيشة. وهناك قناعة كبرى بأن كل تهديد لأي من هذه العناصر الأربعة فيه تهديد لجميعها وفيه تهديد ايضا ليس لهيبة الدولة فحسب بل لكيان الدولة أصلا ولقيامها.
الإدارة آمنة..لكن بشروط
لا أحد قادر اليوم في تونس على انكار الدور الذي لعبته الإدارة التونسية منذ الليلة الفاصلة بين 13 و14 جانفي 2011 إلى الآن في المحافظة على جانب هام ورئيسي من تماسك الدولة وهوالمتعلق باستمرارية المرفق العام. لكن مؤخرا حصل بعض التململ في مختلف صفوف العاملين بالجهاز الإداري على خلفية بعض التعيينات والتسميات والإقالات والاستقالات والاعفاءات من المهام». و«هنا يكمن الخطر على حد تعبير أستاذ القانون الإداري والكاتب العام الاسبق للحكومة السيد محمد صالح بن عيسى مضيفا أنه إذا حدّق الخطر بالإدارة حدّق بكامل الدولة وهز عرشها وكيانها.
ويؤكد بن عيسى أن « الدولة تكون مهددة كلما كانت الإدارة مهددة أي كلما وقع الابتعاد عن مبدإ الحياد السياسي والإداري والحزبي وخاصة الديني والذي يقتضي أن تكون التعيينات في الإدارة على أساس الكفاءات المهنية والفنية.
خطر محدق
سألنا محدثنا بوصفه خبيرا، إن كان المشهد العام للإدارة التونسية اليوم فيه زيغ عن هذه المبادئ، وفيه خطر مُحدق بالدولة فأجاب « يبدوأن ذلك حصل فعلا في المدة الأخيرة بسبب بعض التعيينات وأيضا بسبب اجتهادات شخصية خاطئة لبعض الموظفين حاولوا من خلالها اقحام القناعات والميولات الدينية والحزبية الشخصية صلب التراتيب التنظيمية العادية للعمل الاداري خاصة في الجزء المتعلق بالمرفق العام..وهوما قد يشكل خطرا على قيام الدولة ويُفقدها شيئا من تماسكها الذي ميزها عن بقية دول الثورات العربية طيلة العام الماضي ولا بد من الانتباه لمثل هذا الخطر».
ولم ينف بن عيسى ان لكل حكومة الحق والحرية في تعيين أعضاء الدواوين الوزارية والمستشارين من بين المقربين جدا من الوزير مثلا أومن رئيس الدولة بسبب الحاجة إلى شيء من الثقة في هذه المفاصل. لكن أن يطال الأمر مفاصل المرفق العام مثل الولايات والبلديات والمعتمديات والمؤسسات والإدارات العمومية فهذا يشكل تهديدا حقيقيا لقيام الدولة وقد يُدخلها في متاهات غير محمودة العواقب لا قدر الله.
أمن.. وأمان
في كل دول العالم لا يمكن الحديث عن استقرار وازدهار الدولة دون وجود جهاز امني متماسك وقوي.. «المشهد الأمني اليوم في تونس تسوده ضبابية غريبة الأطوار» يقول أحد الملاحظين الخبراء في الشأن الأمني. محدثنا لم يُنكر الدور الذي يواصل رجال الامن بذله في مكافحة الجريمة العادية وفي حماية الاشخاص والممتلكات رغم الصعوبات والعراقيل، قبل أن يضيف «لكن أن يبلغ الأمر حد عدم السيطرة على مظاهر خطيرة على غرار الجرائم الصادرة عن المُلتحين (المحسوبين على التيار السلفي) فهذا ما لا تقبله أية دولة (ومن ورائها أية حكومة) تريد المحافظة على استقرارها وعلى تماسكها الامني والاقتصادي والاجتماعي».
هواجس وظنون
من جهة أخرى تحدث الخبير المذكور عن الهواجس والشكوك والاتهامات التي أصبحت تسيطر على الناس جراء التعامل شبه السلبي للجهاز الامني مع مثل هذه التهديدات . فبين قائل أن الحكومة نفسها تقف وراء الظاهرة وتقف وراء عدم مجابهتها امنيا لغايات في نفسها، وبين قائل أنها من تدبير أنصار حزب التجمع المنحل لتمهيد طريق العودة، وبين قائل أنها مكيدة من اليسار ضد الحكومة القائمة، اختلفت الآراء وسيطرت الهواجس والشكوك على المواطن العادي وعلى الناشطين السياسيين والاقتصاديين مما أصبح يمثل بالفعل خطرا على سلامة الدولة برمتها من الانهيار. وتبرز هنا ضرورة تواصل الحكومة مع الناس لتوضيح الرؤى حول ما يحصل حتى تعود لهم الطمأنينة بما من شأنه المحافظة على استقرار وهيبة الدولة والحكومة معا.
نوايا اصلاح
لم ينف الخبير في الاصلاح الامني واستاذ القانون العام السيد هيكل محفوظ تأثر العمل الأمني بعد الثورة بالضغوطات الاجتماعية والسياسية، مما أضعفه في بعض الجوانب وهذا طبيعي في الدول حال خروجها من ثورة. لكن لم ينف أيضا وجود نوايا اصلاح اليوم لدى وزارة الداخلية لتجاوز كل النقائص. وقد تم الشروع – على حد قوله – في هذا الاصلاح وسيأتي أكله حتما في الفترة القادمة. وهذا ما ينفي في رأيه وجود مخاطر كبرى تهدد كيان الدولة واستقرارها، بالدرجة التي يتحدث عنها البعض. فالمواطن وغيره من الناشطين السياسيين والاقتصاديين لا يجب ان يستسلم حسب محفوظ لكل المخاوف من ضعف الامن أومن غيابه وللظنون والشكوك، بل يجب أن يكون لديه اعتقاد راسخ ومستمر أنه دائما تحت جناح دولة قائمة وأن يعي بما عليه من واجبات وما له من حقوق. ومن ناحيتها، فان الحكومة مطالبة بمزيد التواصل مع الناس لإعلامهم بكل هذه الخطوات الاصلاحية حتى تعود إليهم الطمأنينة. فإذا توفر كل هذا يمكن للدولة أن تتفادى المخاطر التي قد تهددها كيانها من الجانب الامني.
اقتصاد
من أبرز افرازات الارتباك الامني والإداري في الدولة ضعف الاقتصاد..صيحة فزع اطلقها وما انفك يطلقها الناشطون الاقتصاديون في تونس على امتداد أكثر من 15 شهرا بسبب الصعوبات التي أصبحوا يعانونها في نشاطهم اليومي في ظل عدم استقرار امني في أكثر من جهة وفي ظل موجة الاعتصامات والاحتجاجات وغلق الطرقات واضطرار البعض لغلق مؤسساتهم. وأكثر من ذلك – يقول متحدث باسم رجال الاعمال، فقد كثير من المستثمرين ومن أصحاب نوايا الاستثمار عنصر الثقة الواجب توفره في الميدان الاقتصادي، في إشارة إلى الضغوطات المسلطة على كثير منهم على خلفية شكوك في تورطهم في الفساد سابقا، بما أصبح يهددهم بالسجن وبالمنع من السفر وبالمحاسبة المالية.
«طبعا في كل هذا تهديد لأهم أعمدة الدولة وهوالاقتصاد وبالتالي تهديد لكيان الدولة برمتها» يقول رجل اعمال من الخاضعين اليوم لإجراءات محاسبة منعته طيلة أشهر من السفر إلى الخارج.
تشغيل..ووضع اجتماعي
يتحدث كثيرون اليوم عن ارتفاع عدد العاطلين إلى أكثر من 900 ألف، ويتذمر أغلب التونسيين من غلاء المعيشة بسبب التهاب الاسعار، وتعيش أكثر من منطقة حالة احتقان اجتماعي بلغ في أكثر من مناسبة حده الاقصى ليتحول إلى احتجاجات ساخنة بسبب تأخر الاستجابة للطلبات الاجتماعية فترتب عنها عدم استقرار امني. ورغم حديث الحكومة عن بداية انتعاش الاقتصاد وعن ارتفاع نسبة النمومقارنة بما كانت عليه مطلع السنة وعن تراجع موجة التهاب الاسعاروعن نوايا استثمار كبيرة في المناطق الداخلية المحرومة ، إلا أن ملاحظين اقتصاديين يعتبرون أنه ما زال ينقصنا الكثير للوصول إلى شاطئ الأمان الاقتصادي. وفي رأيهم فانه ما دامت الاوضاع الاجتماعية متدهورة في اكثر من جهة ولدى أكثر من فئة، وما دامت التنمية معطلة في الجهات المحرومة وما دامت نسبة البطالة في ارتفاع وما دامت الاسعار لم تعد إلى نسقها الطبيعي والعادي فإن زعزعة كيان الدولة في جانبه الاقتصادي تبقى واردة في أية لحظة ولا بد من إيجاد أقصى ما يمكن من حلول لهذه الوضعية.