هل قرأ الكاتب ما كتبه؟ قد يكون السؤال دون معنى أو لا معنى له أصلا، لكنّ واقع الكتابة العربية الان يطرحه، وبحدّة، كسؤال عميق وذي معنى. ولعلّ السؤال الاخر الذي يختفي خلف سؤالنا هو «هل قرأ القارئ ما قرأه؟». وللاجابة لا بد ان ننصاع للاجابة عن سؤالين مترافقين أوّلهما للكاتب (ماذا كتبت؟)، وثانيهما للقارئ (ماذا قرأت؟) 2 قد لا يعرف الكاتب العربي الآن ماذا كتب، ليس لأنه يكتب كثيرا، وليس لأنه ينسى كثيرا ولكنّ لأن ما كتبه لم يكن استجابة صادقة لما يريد ان يكتبه حقا. لذلك نرى الكثير من الكتّاب الذين صاروا لا يوقّعون مقالاتهم، وبعضهم صار لا يعني محمول فكرته، ولا مضمونها كرسالة ولا يعرف حتّى المرسل اليه. هؤلاء الكتاب موجودون الان، ومتراكمون في سوق الكتابة صحافة وكتابا. وهم يكتفون بتسويد الاوراق، ثم يوقّعون عليها وهم في ديخوخة شاملة وغيبوبة كاملة عما كتبوه وحبّروه مخلصين للذاكرة التي حفظت قوالب جامدة لاحياة في مفاصل كلماتها. وأمثال هؤلاء الكتاب لا يتذكرون ماذا كتبوا وماذا قالوا او اقترحوا على الحياة. لكنّهم مقتنعون فإنهم كتبوا وهذا حسبهم، سوّدوا الاوراق وقالوا كلاما سبق لغيرهم ان قاله وكتبه،، وحين يصبح فعل الكتابة قريبا من الاجترار والتكرار فإنهم يلقون قرّاء يشبهونهم. لا يتذكّرون ما قرأوه، لأنه سبق لهم ان قرأوه في مكان ما، في زاوية من صحيفة ما، أو في كتاب ما، فلا يتذكّر هؤلاء القرّاء شيئا. ولعلّ هؤلاء القراء الذين لا يقرأون صاروا كتّابا لا يكتبون، مَن يدري؟! 3 لا مناص من قراءة الحياة في عصرنا ولا مهرب من ان نحياها بعمق ومباشرة ونحدّق في تلك العيّنات التي نأخذها من نهر الحياة الانسانية او الحيوانية التي نعيشها مرغمين ولكن. ما نلاحظه هو أن مجمل ما يصدر من أدب عربيّ الآن، هو تهويم مثقف على مجتمع لم يفهم منه الا الجزء اليسير. ونحن، لحدّ الان لم نستطع ان نحدّق في مرآة عيوبنا، لنحكيها بكل ما يتطلب ذلك من دفع لضريبة الكتابة وعقاب الكتابة وثواب التاريخ، وإنّ ما ترجم من أدبنا العربي الى لغات العالم الحي لحد الان لا يساوي سطرا من كتاب الوجود. كتاب الوجود يعتني بالحياة، بوجهها القبيح الصريح الفصيح، ويوم يمتلئ أدبنا بنسغ الحياة وماء الحياة فان النتيجة هي اننا سوف نصبح مقروئين من قبل قرائنا اولا ومن قبل العالم ثانيا حتى على سبيل الفضول والتجسس وما سوى ذلك فإن أدبنا يغدو بلا حياة، وأدبنا بلا حياء، لا بمفهومه الاخلاقي (قلّة الادب وانعدام التربية) ولكن بمفهومه الذي يجعل الكاتب لا يكتب كتابا الا بعد ان يكون قد امتلأ بالموضوع الذي هو بصدد كتابته وعاشه عيشا. إنّ الادب الحيّ يتطلّب أدباء احياء شهودا على عصرهم،حتى يكون قراؤهم شهداء عليهم. 4 إذا كانت الحياة العربية العامة لا تسمح بالتعبير فإن الكاتب الجدير بالحياة هو الذي لا يكفّ عن التذكير بالحياة العربية القادمة التي تعتمل في صدور الناس وستكون ترجمانا جيّدا لما ينتظر العرب كأمّة في مستقبل أيامها، إذا كانت لها أيام اخرى على رأي نزار قباني الذي كتب قصيدته «متى يعلنون وفاة العرب». 5 إن أيأس منظر يحياه الكاتب العربي في هذا العصر هو ان يظل يستجدي دور النشر الاجنبية حتى تهتم باعماله ترجمة وتسويقا، ولكن المطلوب هو ان يكون الكاتب العربي مقروءا من قرائه العرب اولا حيث لا نفع في كاتب مجهول لدى قومه، ومعروف لدى الاخرين. إذا قرّر بعض كتابنا العرب ان يكتبوا مباشرة بالفرنسية او الانقليزية لأنهم صاروا لا يثقون في القارئ المتخرج من المدارس العربية القائمة على التعميم ومن الصحافة العربية المغرمة بالتغطية الاعلامية كبديل عن التعرية الاعلامية. 6 وفي زمن ساعدنا فيه الاستعمار مساعدة حقيقية على كشف عيوبنا، ونحن لا نشكره على هذا الكشف، لأن هذا واجبه (ولا شكر على واجب كما يقال) يغدو واجب الادباء العرب كما اراه يتمثل في رؤية هذه العيوب والتحديق فيها، مليا دون رحمة. 7 لقد ظل الاستعمار في مختلف مظاهره التعددية: (احتلال، استغلال، نهب خيرات، طمس ثقافات، محو هويّات....) ويُعلمنا فقط اننا مرضي ومتسخون وجهلة، فتراه يدعونا الى مستشفاه، وسوف يعيّن أمراضنا وأدواءنا، وحمامه، ومدرسته، ولكن من زاوية مصلحته الخاصة الانية والمباشرة. 8 وإن للأدب دورا خلاقا في المكاشفة بهذه العيوب ولكن من زاوية اخرى دفاعية لأن هدف الاستعمار الان هو التحرير (أي سرقة الحرير)، وهدف الادب هو التحليل (أي تشخيص المشاكل بما يقارب الكشف عن الحلول)، لكن واقع الحال يقول بمرارة أن أدبنا الآن يشبه متّهما مجرما وقّع على جريمة لم يرتكبها، فهو بريء من الجريمة / الكتابة، يلاقي في اغلب الاحوال قارءا أميّا بريئا من القراءة لا يشبه الا «شاهدا ما شافش حاجة».