الكلام دار منذ شهرين في الكواليس: ترتيبات داخل «الترويكا» لعزل محافظ البنك المركزي مصطفى كمال النابلي.. ثم قالها المرزوقي بعظمة لسانه قبل 3 أسابيع في برنامج تلفزي «قررت منذ أشهر إقالة النابلي».. وكان يوم 27 جوان موعد التنفيذ. لم يشفع لمصطفى كمال النابلي حصوله على شهادة أفضل محافظ بنك مركزي في افريقيا.. لم تشفع له كفاءته العلمية وخبرته التي تشهد بها منذ سنوات كبرى المؤسسات المالية والنقدية العالمية..لم يشفع له ما تردد من كلام قبل انتخابات أكتوبر الماضي عن امكانية ترؤسه الحكومة وربما الدولة.. لم تشفع له تصريحاته بأنه استقال من حكومة بن علي سنة 1995 لأنه لا يحتمل الفساد.. لم تشفع له التطمينات التي يطلقها بين الحين والآخر حول وضع الاقتصاد التونسي وحول استرجاع الاموال المنهوبة والمجمدة في الخارج.. لم يشفع له ما يقال عن متانة علاقاته مع مؤسسات النقد والمال الدولية ( البنك الدولي صندوق النقد الدولي..).
بين عشية وضحاها، وجد النابلي، الذي عُين على رأس البنك المركزي مباشرة بعد الثورة، قادما من مؤسسة البنك الدولي، وجد نفسه في الأخير خارج حسابات حكومة «الترويكا». وهذا ما زاد في حدة التساؤلات والأقاويل حول أسباب قرار الاقالة الذي اعتبره اكثر من ملاحظ قرارا غريبا، في حين أرجعه آخرون الى أسباب مختلفة وصفها البعض بالموضوعية.
توتر منذ أشهر
يأتي قرار اقالة النابلي بعد كلام كثير قيل منذ أشهر عن توتر العلاقة بينه وبين قادة الدولة، حيث يتهمهم النابلي بمحاولة ضرب استقلالية الجهاز المصرفي في حين يُواجه هو تهمة عدم توافق«سياسته» في تسيير البنك مع السياسة العامة للحكومة وبتفرده بالرأي وبعدم رفع تقارير حول البنك المركزي لرئيس الجمهورية كما جرت العادة. غير أن محافظ البنك المركزي رد على ذلك بالقول انه يسعى لمقابلة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة خلافا لما يروج ، وانه لا يرفض التحاور والتعاون معهما، بل بالعكس سبق ان تقدم بعدة مطالب لمقابلتهما لكنه لقي منهما كل التجاهل. كما نفى النابلي أكثر من مرة الشائعات التي تتحدث عن وجود تضارب وتناقضات وخلافات حول السياسة النقدية والبنكية للدولة، وقال أنه لا توجد بينه وبين الحكومة مثل هذه التناقضات وأن البنك المركزي يسير في اتجاه سياسة الحكومة.
وقفات احتجاجية
يقول ملاحظون أن التحضير لاقالة النابلي بدأ منذ أشهر بمناسبة تنظيم وقفات احتجاجية أمام البنك المركزي شارك فيها بعض اطارات وأعوان البنك للمطالبة بتطهير البنك ومحاسبة رموز الفساد وبإقالة المسؤولين والمديرين العامين الذي تورطوا في الفساد في ظل النظام السابق. وقال المحتجون آنذاك ان محافظ البنك المركزي مصطفى كمال النابلي الذي يعتبر من الكفاءات الوطنية المشهود لها على المستوى العالمي محاط بأفراد «فاسدين». غير أنهم وجهوا له انتقادات بسبب منحه خططا وظيفية لأعضاء من حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل.
وقد سبق للنابلي أن رد على هذه الاحتجاجات بالقول انها مشبوهة وغير طبيعية ومن الغريب أن تتحول من مطالب مهنية ومالية الى مطالبة باقالة المحافظ. واتهم ملاحظون آنذاك أطرافا مقربة من الحكومة ومن حزب النهضة بأنها تقف وراء تلك الوقفة الاحتجاجية ووراء ما نادى به المحتجون في اطار مزيد الضغط على النابلي.
المرزوقي: السياسة المصرفية لممثلي الشعب
سبق للرئيس المرزوقي أن صرح سابقا، حول دواعي اعتزامه اقالة مصطفى كمال النابلي، بالقول «نحن بحاجة الى سياسة اقتصادية وسياسة مصرفية أخرى تكون تحت تحكم الشعب التونسي وليس تحت تحكم أي طرف آخر.. بالنسبة الينا لا أحد فوق ممثلي الشعب.. وممثلو الشعب هم من يقومون بالسياسية ومنها السياسة الاقتصادية». وقد يكون المرزوقي لمح بذلك الى أن هناك أطرافا أخرى لا تزال نافذة في البلاد وهي التي تقف وراء النابلي لتوجهه حول السياسة المصرفية للبلاد وهو ما قد يكون أثار احترازه واحتراز الحكومة.
الجبالي: حقائق خفية
قبل أسابيع، سُئل الوزير الأول حمادي الجبالي عن الموضوع نفسه أجاب بطريقة ديبلوماسية ولم يُفهم من اجابته آنذاك ان كان هناك توجه فعلي نحو إقالة النابلي من عدمه. واكثر من ذلك رفض الجبالي التعليق على اختيار مصطفى كمال النابلي كأفضل محافظ بنك مركزي في افريقيا وقال لا داعي للدخول في المزايدات وفي تفاصيل الحقائق الخفية التي لا يعلمها كثيرون تاركا بذلك الباب مفتوحا للتأويلات.
رجح مراقبون ان يكون السبب الحقيقي لعزل النابلي مرتبطا بتخفيض مؤسسة التصنيف «ستاندارد اند بورز» في 23 ماي الماضي التصنيف الائتماني السيادي لتونس درجتين ليصبح «بي بي» وهي درجة «عالية المخاطر» بحسب المؤسسة. ويدور حديث في كواليس الترويكا منذ مدة عن تسبب كمال النابلي بسياسته النقدية والمصرفية في هذا التصنيف. وكان كمال النابلي قد علق هذا التصنيف بالقول إنه فيه حيف وأنه لم ينصف تونس. كما استنكر اتهامه بالخيانة وبأنه يعرقل عملية الحصول على التمويلات وانه يقف وراء تخفيض الترقيم السيادي لتونس مشيرا انه مستعد للاستقالة من البنك المركزي اذا وجد دليل على ذلك وشدد أن خدمة تونس هي أولى اهتماماته.
رد اعتبار
منذ صدور قرار اقالة النابلي قال ملاحظون للوهلة الاولى ان ذلك تزامن مع «قضية» تسليم البغدادي المحمودي وان الاقالة جاءت كترضية لرئيس الجمهورية وكردة فعل من المرزوقي على رئاسة الحكومة بعد تجاوز صلاحياته اثر تسليم الوزير الاول الليبي السابق. لكن عدنان المنصر، الناطق باسم رئاسة الجمهورية صرح أن قرار المنصف المرزوقي بانهاء مهام مصطفى كمال النابلي، ليس ردّا على قيام الحكومة بتسليم البغدادي المحمودي الى السلطات الليبية دون استشارته.
منصر يكشف
بعد قرار الاقالة اتضحت الرؤية نسبيا حول دواعي اقالة النابلي، حيث صرح عدنان منصر ان القرار يرجع الى عدم تناسق السياسة النقدية التي ينتهجها مصطفى كمال النابلي مع سياسة رؤساء الجمهورية والحكومة والمجلس الوطني التأسيسي والى تباطؤ البنك المركزي في استرجاع الأرصدة المالية التي تم تهريبها في عهد بن علي الى مصارف اجنبية. علما أن مصطفى كمال النابلي يرأس «اللجنة الوطنية لاسترجاع الأموال المنهوبة بالخارج» التابعة للبنك المركزي التونسي.
مجهودات النابلي
سبق لكمال النابلي طيلة الاشهر الماضية أن عدّد في تصريحاته الاعلامية الاصلاحات التي قام بها داخل البنك على غرار تغيير المديرين العامين واعطاء الأهمية لمجلس الادارة في اخذ القرار، واحداث خلية مراقبة داخل البنك لضمان الحوكمة الرشيدة وبذل كل الجهود للمحافظة على التوازن المالي والنقدي للبلاد واعطاء تعليمات للبنوك لتكون أكثر شفافية في معاملاتها. وبخصوص استرجاع الأموال المهربة ذكر النابلي أن الدول المعنية هي التي لا تتعامل بجدية مع هذه المسألة وليس البنك المركزي.
استقلالية البنك
منذ مدة عبر مراقبون محليون ودوليون عن خشيتهم من المس بمبدإ استقلالية البنك المركزي التونسي عبر تعيين أحد أتباع الحكومة الحالية على رأسه. وكان كمال النابلي قد أفاد في تصريحات سابقة أن موضوع استقلالية البنك المركزي ليس «بدعة» جديدة في تونس، فقد رسخ الهادي النويرة هذا المبدأ منذ الاستقلال كما أن كل دول العالم تعمل به مبينا أنه ليس من مهام الحكومة تحديد السياسة النقدية للبلاد. غير أن كثيرون اعتبروا ان اقالة محافظ البنك المركزي هو إحدى تداعيات رغبة الحكومة الحالية في الهيمنة وفي اجتياح حزب النهضة لكل مفاصل الادارة، بما في ذلك مفصل البنك المركزي. وتأتي هذه الاتهامات في ظل نداءات عديدة منذ اشهر حول ضرورة بقاء الادارة وخاصة البنك المركزي مستقلين وخارج الحسابات السياسية والحزبية الضيقة.
في انتظار التأسيسي من الناحية القانونية، ما زال قرار اقالة النابلي الذي اتخذه المرزوقي غير نافذ في انتظار مصادقة المجلس التأسيسي عليه بأغلبية الحاضرين وفق ما ينص عليه الفصل 26 من التنظيم المؤقت للسلط العمومية. ويضيف الفصل ذاته أن هذه المصادقة تتم في اجل 15 يوما الموالية لموعد تقديم القرار من رئاسة الجمهورية Uلى المجلس التأسيسي. وهو ما يعني ان النابلي سيواصل القيام بمهامه الى حين مصادقة التأسيسي على قرار المرزوقي.
وللاشارة فان تعيين محافظ جديد للبنك المركزي تتطلب المرور عبر الاجراءات نفسها: توافق في مرحلة أولى بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ثم اتخاذ قرار جمهوري من قبل رئيس الجمهورية ثم احالته على المجلس التأسيسي وانتظار مصادقته عليه في أجل 15 يوما. لكن السؤال الهام، من سيكون المحافظ الجديد للبنك المركزي في حكومة الجبالي؟؟