لئن أسهم الجامعيون والمثقفون بالتحليل والنقد والاقتراح في المجال السياسي منذ الأيام الأولى للثورة فهذا من نتائج الثورة ذاتها وهو أمر محمود بل ومشكور عليه حيث هو مصدر لإثراء الحركية السياسية الجديدة في البلاد وقد مكنت من بروز عدد من المحللين السياسيين من ذوي الكفاءات الفكرية والمعرفية العالية، وما أثرى النقاش والجدل خاصة هو الاختلاف في الرأي وتصادم الحجج وتنوع الاقتراحات بما يجعل المواطن التونسي وحتى العربي عموما يعيش فترة تاريخية فريدة من نوعها في تاريخ تونس على وجه الخصوص والعربي عموما. غير أن المتتبع لما تأتي به ساحة التحاليل السياسية وبقدر ما ينشرح له صدره من إيجابيات تدل على النزاهة الفكرية لأصحابها وسلامة منهجم في إبداء الرأي المساند أو المختلف فإنه يقف مشدوها أمام كتابات وآراء تثير الإشمئزاز لغرابتها وخاصة إذا ما كانت صادرة عن مثقف «جامعي» بل ومختص في «علم الاجتماع السياسي» وهو اختصاص على ما يبدو حديث العهد في الجامعة التونسية، وفي هذا الإطار قرأت ما جاء في مقال للسيد الدكتور سالم لبيض تحت عنوان «نداء تونس» : نزوة سياسية أم حركة جماهيرية؟» وذلك بجريدة «الشروق» ليوم 19 جوان 2012 الصفحة 9 . وماورد بهذا النص يستوجب لا الرد وإنما إبداء ملاحظات أرجو أن لا يأخذها الدكتور مأخذ التحامل عليه فهي أقرب إلى العتب منها إلى شيء آخر، وليس في نيتي الدفاع عن مبادرة السيد الباجي قايد السبسي فهو و«جماعته» كما نعتهم الدكتور أقدر على ذلك وأولى به من أي كان وإن كنت لا أخفي أنني من مؤيديها وممن يتمنون لها النجاج.
كيف يسقط الدكتور في تناقضات لغوية ومعرفية في سياق تهجمه على المبادرة المذكورة ويضع نفسه موضع المنتقد المبتدئ والحال أنه على بينة وخبرة مما يكتب أو هكذا يبدو؟ كيف ينعت المبادرة ب «النزوة» من ناحية و«العابرة» من ناحية أخرى؟ على الدكتور أن يراجع مختصا في علم النفس ليبين له خطأه في اختيار العبارة، أما نعت المبادرة ب «العابر» ثم هاهي تتحول إلى حزب سياسي، فهذا تناقض ينم عن عدم تمكن من اللغة المستعملة وخلط بين مفهومي الثابت والمتحول وكذلك الشأن بالنسبة إلى عبارة «الوعي المزيف» فهذه إضافة من الدكتور لقاموس علم النفس وجب على أهل الذكر دراستها ومراجعة علمهم على ضوئها قل رب زدني علما... ومن المؤسف حقا أن ينزل الدكتور لبيض إلى مستوى ما ينشر في الجرائد الصفراء باستعمال المبتذل والعبثي من الألفاظ في محاولة تحاكي الأسلوب التهكمي دون النجاح في ذلك فنعت هيئة محترمة من السياسيين تسهر على إبلاغ رأيها خدمة للبلاد ب «الجماعة» يوحي بأن الدكتور يعتبرهم خليطا بسيطا غير منظم وغير فاعل وهي لغة تحقير كما في المنطوق العامي السائر في السخرية والحط من قيمة المقصود بها أما استعمال «أيها السيد الوزير الأول» و«أيها السادة المناصرون» فإنه لعمري جرأة في الابتذال والعبثية وعدم احترام لا يتماشى وصفة الدكتور حتى وإن كان على خلاف مع «الجماعة» بل وما ضر أن يكون على خلاف معهم شريطة اعتبار المقامات واحترام حدود حرية الرأي والتعبير عن الاختلاف... وعن سعة اطلاع الدكتور بكل شيء في البلاد...فهو يريد أن يثبت للقارئ، والأمر لا يخلو من المغالطة، أنه على علم بكل شاردة وواردة ولا شيء يخفى عليه حتى خفايا تكوين حزب «نداء تونس» لذلك فهو ينطلق في تقديم النصح بأسلوب يفيد أنه يعلم ما لا يعلمه احد غيره. ولعله يستند في ذلك الى معرفة وخبرة يجهلها التونسيون عنه وكشفت مآثرها الثورة... ولعدم معرفتي بالدكتور وكفاءاته في المجال السياسي الاما تابعناه في بعض القنوات التلفزية وقرأناه صدفة في بعض الجرائد فإن مرجعيته السياسية قد يكون عبر عنها بقصد أو بغير قصد في هذا النص المفعم بكلمة «الجماهيرية» ومشتقاتها، وإذ أشير الى الاستعمال المفرط للكلمة فليس معناه أنني أتكهن بانتماءاته السياسية حيث أعترف أنه ليست لي كفاءة الدكتور في هذا المجال ولكني أعجب للحقد الدفين الذي يكنه الدكتور لبيض لمن صنع تاريخ بلاده بما له وما عليه ونزعته إلى إضفاء السواد على ما يجري في البلاد وتحديدا مما لا يجاري قناعاته وأهواءه.
كيف يسمح الدكتور لنفسه بنعت اجتماع شعبي ضم الالاف من التونسيين والتونسيات بالمسرحية ثم وبدون حياء أن يعطي درسا في الأخلاق لمن كان له الفضل في الحفاظ على البلاد ووحدتها في أخطر المراحل التي مرت بها؟ وهل تم تفويضه للدفاع عن الذين تفضل بالدفاع عنهم؟ بل ويستنتج الدكتور ان السيد الباجي قايد السبسي قد «نصب نفسه ضامنا وحيدا لبقاء الدولة واستمراريتها...» و«غريما لأي كان...»؟ غريب هذا على لسان دكتور في علم الاجتماع «السياسي»، بل وأكاد أسألك: من أين لك هذا؟ أم هو التجني وكفى باسم حرية التعبير عن الرأي؟
وبطبيعة الحال لم يغفل الدكتور عن اعلام القارئ باكتشافه أن الباجي قايد السبسي رغم ما يحفظه من آيات قرآنية وأحاديث نبوية فإنه لم يقل «كلمة واحدة في الاسلام يوم ان كان الاسلام في حاجة إليها»، فهل مرت البلاد بحروب صليبية؟ هل مر صلاح الدين من هنا واختفى الباجي قايد السبسي وتخاذل عن القيام بواجبه؟ أم أن الدكتور يضمر شيئا آخر؟ أما الدفاع عن العروبة والقومية العربية فكانت النغمة الاضافية للحن المميز للدكتور لبيض ولكن فاته ان العروبة ليست حكرا على أحد وأن القومية العربية لها من يدافع عنها اليوم في تونس وفي العلن.
وأخيرا أذكر الدكتور لبيض أن الزعيم الحبيب بورقيبة الذي بفضله أصبح دكتورا فإنه ليس سلعة فات أوان استعمالها حتى تتجرأ القول «ذهبت أيام يحيا بورقيبة»... فبورقيبة سيبقىحيا لأنه فكر وتاريخ ويشرفنا واجب الاعتراف بعبقريته وحكمته وفضله على التونسيين والتونسيات جميعا الا من كان جحودا.