عندما وصفت حوار هشام عودة وهو شاعر أيضا مع الشاعر المتميز سامي مهدي بالحوار السير ذاتي فإن السبب في هذا أن عودة كان يتعمد أن يجعل من حواره كشفا أو تتبعا لسيرة الشاعر الذاتية وكيف أثرت في منجزه الشعري والنقدي وكذلك منجزه في الترجمة، ولعل مسار الحوار بهذا الاتجاه هو الذي جعل الكتاب مليئا بالمعلومات عن الشاعر لا سيما وأن سامي مهدي من بين الشعراء القلائل الذين كانوا لا يمنحون المعلومات الحياتية اهتماما واضحا لكنه بالمقابل لم يكن يتردد في الإجابة عن أسئلة توجّه إليه ذات علاقة بنشأته ونضجه وتفاصيل أخرى تخصّ حياته، ومن هنا فإن كتاب هشام عودة هذا يمتلك قيمة مهمة لمن يود الاقتراب أكثر من تجربة هذا الشاعر العلامة في مسار الشعر العراقي. لفت انتباهي هذا التعدّد الواسع في قراءات الشاعر التي كوّنته، وهي قراءات كما أوردنا ذكر بعضها، لم تقتصر على بلد بل أرادها قراءات تمتدّ من روسيا الي أمريكا الشمالية الى بريطانيا الى فرنسا الى الآداب الاسياوية والإفريقية، ووضح لنا ما كنا نردده دائما في أن الأدباء الكبار هم قراء كبار أيضا، فالموهبة مهما كبرت لا تكفي وحدها ما لم تقترن بالقراءات التي تجعل المبدع يعرف أين هو؟ وأين الآخرون؟
أطلق هشام عودة على كتابه اسم «الكتابة بلا انقطاع» إذ أن شاعرنا عرفت عنه هذه الاستمرارية الدافقة التي لم يحل بينه وبينها انشغاله بمهمات وظيفية رأسية وخاصة في مجالات الثقافة والاعلام ميدانه الذي عرف به وهذا قبل احتلال العراق العزيز، وطننا.
وسامي مهدي شاعر لا يأخذ بالمسلّمات بل إنه يحاول أن يبقى متميزا في رؤاه وأفكاره، وعندما يسأله هشام عودة عن أنه يتميّز عن سائر أبناء جيله الشعري بنزعته للتنظير ويريد أن يستوضحه عن هذا الأمر يكون جوابه: (ربما صارت لدي مثل هذه النزعة فعلا وأحسب أنها جاءتني من قراءاتي الفلسفية ومن اهتمامي في متابعة المناهج النقدية على اختلافها) ثم يستدرك ليقول له: (ولكنني لست منظّرا على أية حال من الأحوال، فلست مهتما بوضع نظرية شعرية أو نقدية لنفسي أو لغيري) ويوضح هذا أكثر بقوله: (أنا صاحب رؤى وأفكار ومواقف يحبّ أن يعبر عن رؤاه وأفكاره ويعرب عن آرائه في ما يقرأ وفي ما يجدّ ويدور في الساحة الأدبية والفكرية، وقل مثل هذا عمّا أكتبه من دراسات ومقالات أدبية ونقدية)، ويذهب في تواضعه أبعد عندما يقول في سياق الحديث نفسه: (أنا لست ناقدا ولا أطمح أن أوضع في عداد النقاد بل صاحب آراء وأفكار في الشعر والقصة والرواية والنقد يحب أن يعرض آراءه وأفكاره ويضعها موضع الاختبار).
وهنا ينبّه الى مسألة مهمة عندما يقول: (ولعلك تلاحظ أن أغلب ما كتبته من دراسات ومقالات ينطلق من حالة اختلاف مع الآخرين. فأنا لا شأن لي بما أتفق فيه معهم بل بما أخالفهم فيه من أفكار ووجهات نظر. وهذا ما ينطبق على كل ما كتبته حول بنيوية رولان بارت وتفكيكية جاك دريدا وعلى سائر ما كتبته حول المناهج النقدية الحديثة ومنها نظريات القراءة والتأويل) حتى قوله لمحاوره (واجب أن أعترف لك بأنني متلقّ صعب في زمن كثر فيه المتلقّون الببغاويون، فأنا لا أقرأ إلا بعيني ناقد يقظ ومتحفّز وخاصة ما يأتينا من الغرب من فكر فلسفي ومن نظريات ومناهج نقدية ونتاجات أدبية). ويعترف سامي مهدي بأنه (ممّن يشعرون بمسؤولية أدبية وأخلاقية حيال حياتنا الثقافية وحيال ما يظهر فيها من أفكار وآراء وانطباعات ومعلومات أراها ناقصة أو خاطئة أو قاصرة).
تحدث سامي مهدي عن القصيدة القصيرة ومنجزات جيل الستينات ثم عن قصيدة النثر التي كان جوابه عنها: (لن أدخل هنا في حديث نظري أو تاريخي حول هذه القصيدة وأكتفي بالقول إنها شكل مهم من أشكال الكتابة الشعرية والجدل حول مدى مشروعية كتابتها أصبح عقيما فمن حق كل شاعر أن يختار الشكل الذي يكتب به، وليس لنا عليه من شرط سوى أن يكون مبدعا، ولكن ينبغي في رأيي سوى أن يكون مبدعا) ثم يوضح جوابه أكثر بقوله: (ولكن ينبغي في رأيي التفريق بين قصيدة النثر والشعر الحر، فلكل شكل من هذين الشكلين تاريخه الخاص وتقنياته وتقاليده الكتابية) ويرجع هذا الى أن (هناك التباسا في استخدام المصطلح: قصيدة النثر، فكل ما يكتب اليوم من شعر غير موزون يحسب عليها، وهذا خطأ في رأيي وهو خطأ ناجم إما عن جهل أو التباس أو تساهل في فهم المصطلح وترويجه، وأقول بتبسيط شديد: إن الشعر الحرّ هو ما يكتب بصيغة أبيات على غرار شعر التفعيلة، أما قصيدة النثر فهي ما يكتب بسطور متصلة كالنثر العادي، فما كتبه توفيق صايغ ومحمد الماغوط مثلا هو شعر حره، وما كتبه أنسي الحاج في «لن» و«الرأس المقطوع» تحديدا هو قصيدة نثر، وأغلب ما يكتب اليوم تحت عنوان قصيدة النثر هو شعر حر في واقع الأمر).
وله رأي ينفرد به كما بدا لنا إذ يقول: (ولكنني أعتقد بأن كلا من الشعر الحر وقصيدة النثر هما شعر ناقص، شعر ينقصه الوزن، فالوزن ضروري للشعر في رأيي، لأنه يؤدي فيه وظائف ايقاعية ودلالية وتنظيمية، فإذا خلا منه الشعر ضعف أداء هذه الوظائف وبهت الى حد كبير. وهذا يظهر بوضوح حين تنصت الى شاعر يلقي شيئا من هذا الشعر ولا أذيع سرا قلت إن كثيرا ممهن كتبوا شعرا دون وزن هم لا يعرفونه) ويسمي بالأسماء محمد الماغوط وأنسي الحاج. ويرى في المشهد (طوفانا من الكتابات الانشائية والخواطر الأدبية السقيمة المحسوبة على الشعر والشعر منها براء). ويتساءل وبعد نصف قرن من إعلان ولادة قصيدة النثر في محيطنا العربي: (هل أنجبت حركتها شاعرا كبيرا عدا سركون بولص؟!). كتاب مليء، وثري هو بشكل وآخر مرجع لدارسي الشعر العربي الحديث.