شيئا فشيئا وبوقوع المزيد من المآسي يتأكّد انزلاق المشهد السياسي إلى مآلات رديئة جدّا تمسّ الأمن العام ومصالح البلاد الداخليّة والخارجيّة وتضرب الوحدة الوطنيّة وتواصل التلاعب بهيبة الدولة ورموزها. اليوم بات من شبه المتأكّد أنّ الّّذي يجري بين الفينة والأخرى لا يُمكنه أن يكون عفويّا بل إنّ «أشياء» خفيّة تُحرّك عن قصد أو دونه فئات هامّة من الشعب وخاصّة الشباب منها من أجل الوقوع في المحظور وارتكاب الحماقات.
الشباب الّذي ابتلعتهُ أمواج البحر بالعشرات شباب مسكون بالخيبة وانسداد الآفاق وعدم الاطمئنان على مستقبله في بلده وبين أهله ، والشباب الّذي اندفع إلى اقتحام السفارة الأمريكيّة وألقى بنفسه في مرمى الموت والتخريب والعنف والسرقة لم يجد من يمدّ له يده ليرسم له طريقة مثلى في الاحتجاج السلمي والتعبير عن انتصاره للرسول الكريم الّذي قابل المستهزئين به وبرسالته الخالدة بقولته الشهيرة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
وليس هؤلاء فقط، فالشباب الّذي يخرجُ يوميّا في أكثر من قرية ومدينة ينحدر إلى العنف والتعدّي على الممتلكات العموميّة والخاصّة في غياب التأطير والتوجيه والمرافقة، هم في غالبيتهم مغلوبون على أمرهم لا يعرفون المنهاج السليم للتعبير والاحتجاج وتبليغ مطالبهم ويضعون حياتهم ومستقبلهم بيد نخب وأحزاب تتسارع يوما بعد يوم في اتجاه التنابز والتنافر والاحتراب السياسي والفكري والإيديولوجي.
«اللّعبة» باتت مكشوفة اليوم، إنّها صراع السلطة المأخوذ بالحملات الانتخابيّة غير المعلنة ومهاجمة الخصوم عبر ليّ الذراع وإن اقتضى الأمر كسر العظام مرّة واحدة. تؤشّر الأحداث إلى أنّ الصراع على السلطة في تونس يتجّه إلى مسالك خطيرة ينعدم فيها ، في الكثير من الأحيان، الإحساس بروح المسؤوليّة وتجاهل أولويات المرحلة والتغافل عن احتياجات الناس الملحّة والمتأكّدة في الأمن والتنمية والشغل والعيش الكريم.
في حادثة السفارة الأمريكيّة، سارعت الأحزاب إلى البيانات والتصريحات والبلاغات الصارخة والمندّدة بالفيلم المسيء للنبي الكريم، وهي من حيث درت أم لا، ضاعفت تأجيج مشاعر الشباب وخاصّة منه الشباب المتديّن ورمت به في مواجهة الغاز المسيل للدموع والرصاص.
أكثر من سنة ونصف عن الثورة ولم نسمع كلاما من النخب والأحزاب يُطمئن الناس ويُعزّز فيهم الأمن والثقة في المستقبل، كما لم نر خططا وبرامج لتوعية الشباب بطرق الاحتجاج السلمي والتعبير الحضاري، كما واصلت النخب والقيادات الحزبيّة انسحابها من ساحات ومواطن الاحتجاج الشعبي إلى بلاتوهات التلفزات والإذاعات وصفحات الجرائد والغرف المغلقة والصالونات الفاخرة تترشّف كؤوس القهوى والشاي وأشياء أخرى بعبق الدم والجراح وآلام الأمهات والآباء وعويل الصغار وسيناريوهات الغد المتوتّر. كفو (والكلام موجّه إلى كلّ الأحزاب) عن تدافعكم إلى كراسي الحكم والسلطة فقد باتت اللعبة قذرة جدّا.