لقد أصبح مفهوم «الشرعيّة الانتخابية» في خطاب الحكومة المؤقتة في تونس من المفاهيم المقدّسة الذي تستعمله يوميا من أجل الدّفاع عن نفسها أمام حالة الاحتقان الاجتماعي والأزمة السياسية والاقتصادية التي تعيشها بلادنا اليوم. وباسم الشرعية الانتخابية صعّدت هذه الحكومة من استعمال القوة إلى الحد الأقصى في عديد المناسبات لقمع حركات الاحتجاج والتظاهر والاحتجاجات الشعبية خوفا من فقدانها «شرعيتها الانتخابية» التي تحولت في رأينا إلى أيديولوجيا ذات طابع «كسموبوليتي» أي أيديولوجيا مطلقة وخارقة لا يمكن معارضتها باعتبارها القوة الوحيدة التي تمتلك الصلاحيات والحق في الهيمنة على الدولة والمجتمع، ولو كان ذلك على حساب مبدإ السّيادة الوطنية والديمقراطية والكرامة..الخ. ونتيجة فشلها في الاستجابة إلى أهداف الثورة أصبح خطابها يشرّع إلى الإستبداد الديمقراطي. إنّ الشرعية الحقيقية تقتضي تطابق سياسة الحكومة وممارساتها مع مقتضيات أهداف الثورة. و«الشرعية الانتخابية» هي قيمة ومعيار وآلية للحكم الديمقراطي وليست غاية في ذاتها أو شعارا سياسيا يرفع من حين إلى آخر من أجل تبرير الاستبداد والتنكر إلى أهداف الثورة. فحكومات جميع الدّول في العالم تدعي أنّها شرعية، ولكن هذا غير صحيح طالما أنّها غير ملتزمة بتحقيق مطالب الشّعب على فرضية (وهي غير صحيحة) أنّه هو الذي عيّنها وأعطاها هذه الشرعيّة. و«الشرعية الانتخابية» تسقط بمجرد عدم التزام الحكومات بالعمل على تحقيق مصالح شعوبها وحماية أوطانها.
إنّ تجليات الاستبداد الديمقراطي في بلادنا اليوم، لا تحتاج إلى تحليل أو دراسة عميقة بحثا وتحقيقا وإحصاء واستقراء، نظرا إلى أنّ الحكومة المؤقتة بقيادة «حركة النهضة» قد اعتمدت منذ تشكيلها نظام المحاصصة الحزبية. فانفردت بالسّلطة التنفيذية وهيمنت كذلك على السّلطة التشريعية (المجلس الوطني التأسيسي) التي انتخبها الشعب. فغدرت هذه الحكومة ب «الشرعية الانتخابية» وبالشعب، وأصبحت تجمع بيدها السّلطتين التنفيذية والتشريعية معا. ومن ثمّ تنكرت إلى أوّل شرط للديمقراطية وهو الفصل بين السّلط. ف«الشرعية الانتخابية» أصبحت غاية للوصول إلى الحكم وليست آلية لبناء نظام الحكم الديمقراطي. ومن أجل الدّفاع عن فشلها أشهرت سيفها في وجه كل من يعارضها أو ينقدها ولو كان على حساب الديمقراطية وباسم «الشرعيّة المستبدّة». ف«الشرعية الانتخابية» والاستبداد لا يلتقيان، بل يتناقضان في النظرية والممارسة، كما يلغي الواحد منهما الآخر. فالاستبداد يعوق تقدم المجتمع ويلغي المؤسّسات الدستورية والتشريعية (المجلس الوطني التأسيسي) التي تحوّلت عندنا إلى أداة تستعملها هذه الحكومة من أجل تحقيق مصالح حزبية ضيقة لا تعبّر عن إرادة الشعب وأصبحت شرعية من أجل تبرير الاستبداد الديمقراطي.
لقد عرّت الأشهر السّابقة ما كان مستورا، وكشفت نوايا هذه الحكومة في اختلاق معارك وقضايا هامشية و«فتن» فكرية وسياسية لا علاقة لها بأهداف الثورة الحقيقية: من تنمية وتشغيل وعدالة اجتماعية وديمقراطية. ونظرا إلى أنّها تستخدم جميع الأساليب القمعية في تعاملها مع مطالب الشعب فسوف تفقد شرعيتها الانتخابية ولو بعد حين. ولكن الأمر لا يتوقف عند مسألة فقدانها الشرعية لأنها لم تنجز أهداف الثورة، بل إنّ الخطر الأكبر يكمن في أن تصبح هذه الحكومة من القوى المضادة لهذه الثورة وبدعم غربي وأمريكي وخليجي معلن أحيانا ومتخفّ أحيانا أخرى. هذه القوى الاستعمارية التي ليس لها من غاية سوى الحفاظ على «استقرار» البلاد من أجل حماية مصالحها ولو كان ذلك على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان ولنا في تاريخنا العربي شواهد وعبر كثيرة. والنتيجة ستكون سقوط البلاد في الاستبداد السياسي من جديد وبلبوس «ديمقراطي».
إذًا، هناك حالة تعارض بين الاستبداد الدّيمقراطي والشرعيّة الانتخابية. وما يميز الحالة التونسيّة والعربية عموما هو الخلط بين الدّيمقراطية والشرعيّة، والعمل على استخدامهما بمعنى واحد. فالديمقراطية هي نظام حكم سياسي في الدولة، أما «الشرعيّة الانتخابية» فهي إحدى آليات الوصول إلى الحكم. كذلك لا يتوقف الأمر على مجرّد الخلط بين المفهومين وعدم إدراك الفرق بينهما، وإنّما يتمثّل في محاولة الحكومة المؤقتة وحلفائها وضع نوع من التّطابق بينهما أي الاتجاه نحو تبرير الاستبداد الدّيمقراطي باسم الشرعيّة الانتخابية.