نقدم في بداية حديث اليوم التعريف المُعجمي الموضوعي ، لهذا العالِم المفكر ملخصا من بعض المراجع مع بعض الزيادات والتوضيحات الضرورية: فهو (واصل بن عطاء الغزّال، وكنيته أبو حُذَيْفة ولقّبه الغزّأل، لمجالسته الغزالين كما لقب بعنق الزرافة لطول عنقه، وهو رأس المعتزلة ومن أئمة البلغاء والمتكلمين. سُمِّيَ أصحابه بالمعتزلة لاعتزاله حلقة درس الحسن البَصْري. ومن المعتزلة طائفة تُنسب إليه تُسمَّى «الواصلية» وهو الذي نشر مذهب الاعتزال في الآفاق، وُلد بالمدينة سنة 80 ه 131م ونشأ بالبصرة.
وكان يلثغ بالراء فيجعلها غينا، فتجنب الراء في خطابه، وضُرب به المثل في ذلك. وكانت تأتيه الرسائل وفيها الراءات، فإذا قرأها أبدل كلمات الراء منها بغيرها حتى في آياتٍ من القرآن. وقد قال أحد الشعراء في ذلك، مقارنا هجر حبيبه بهجر واصل لحرف الراء: «أ جَعَلْتَ (وصْلي) (الراءَ)، لم تنطق به وقطعتني حتى كأنكَ (واصلُ)؟» ونلاحظ في البيت، من الناحية البلاغية في باب البديع، أن الشاعر قد جانس بين «وصلي» من الوصال وبين «واصل» اسم واصل ابن عطاء، بالإضافة إلى الطباق وهو ذكر الشيء وضده وذلك بين كلمتي: «قطعتني» من «الهجر» و«واصل» من «الوصال». ولأبي محمد الخازن في مدح الصاحب ابن عباد هذا البيت مؤكدا كرمه بأنه تجنب قول [لا] لمن يطلب منحة، كما تجنب واصل بن عطاء نطق الكلمات التي تشتمل على حرف الراء لأنه يلثغ بها وينطقها غينا: «(نَعَمْ) تجنبَ (لا)، يوم العطاء،كما تجنبَ (ابنُ عطاءٍ) لفظه الرَّاءِ» ونلاحظ أن الشاعر في هذا البيت طابق بين: (نعم) و(لا) كما جانس بين: (يوم العطاء) أي يوم الجود، و(ابن عطاء)، أي واصل. وقد أكد أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني هذا القول عن الجاحظ: (قال الجاحظ: وكان بشار يَدين بالرجعة، ويكفِّر جميع الأمة، ويُصوِّب رأي إبليس في تقديم النار على الطين، وذكر ذلك في شعره فقال: «الأرض مظلمة والنار مشرقة والنار معبودة مذ كانتِ النارُ» قال(الأصفهاني عن بشار): وبلغه عن أبي حُذ َيْفةَ واصل بن عطاء، إنكارٌ لقوله وهتْفٌ به، فقال يهجوه: «مالي أشايع غزّالا له عُنُقٌ كنِقنِقِ الدَّوِّ إنْ ولَّى وإنْ مثلاَ عُنْقَ الزرافةِ ما بالي وبالُكُمُ تُكَفِّرونَ رجالا كفَّروا رجلا؟»
قال (أبو الفرَج مشيرا إلى هذه اللثغة): فلما تتابع على واصل منه (أي من بشار) ما يشهد على إلحاده خطب به واصل، وكان ألثغَ على الراء فكان فاجتنبها في كلامه، فقال: أمَا لهذا الأعمى الملحد، أمَا لهذا المشنَّفِ المُكنى بأبي معاذ مَن يقتله؟ أمَا والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية لدسست إليه مَن يبعجُ جوفه في جوف منزله أو في حَفْلِهِ، ثم كان لا يتولَّى ذلك إلا عُقَيْلي أو سدوسي! فقال (أي واصل): أبا معاذ ولم يقل: بشار (ابن برد)، وقال: المشَنَّف ولم يقل: المُرَعَّث، وقال: من سجايا الغالية ولم يقل: الرافضة، وقال: في منزله ولم يقل: في [عُقْرِ] (داره)، وقال: يبعج بطنه ولم يقل يبقر، للثغة التي به في الراء. قال (الأصمعي): وكان واصل قد بلغ من اقتداره على الكلام وتمكُّنِه من العبارة أن حذف الراء من جميع كلامه وخُطبه وجعل مكانها ما يقوم مقامها).(1) الأغاني ج 3 ص 139/140 ونلاحظ أنه إن جاز له أن يعوّض كلمة بأخرى في الكلام المنثور فإنه لا يجوز تعويض كلمة بأخرى في القرآن الكريم، وكذلك في الشعر لأن الوزن والقافية لا يسمحان بتغيير أي حرف إلا إذا سمح الوزن والقافية بذلك، ومعنى هذا أن القصائد التي على روي الراء لا يمكن له أن ينشدها، إلا إذا غير رويها، ففي الأبيات الثلاثة المذكورة في بداية هذا المقال عشرة راءات لا يمكن تعويضها بغيره رغم أنها ليست في القوافي، وقل مثل ذلك في السجع، ولو حاول تغييرها لوقع في تكلف وعناد مضحك.
ومما يدل على مبالغة الرواة في الإشارة إلى تجنب واصل لحرف الراء أن المترجمين له مثل صاحب الأعلام الذي ذكر في آخر ترجمة واصل السابقة ستة كتب من تأليفه نصفها فيه حرف الراء، ولو كان كما ذكروا لتجنبه فيها، فمن كُتبه: «أصناف المُرْجِئَة...» و«معاني القرآن...» و«السبيل إلى معرفة الحق»، فكلمات: (المرجئة) و(القرآن) وال(معرفة) لها في العربية كلمات تعوضها مثلما رأينا في الكلمة التي قالها في إهدار دم بشار بن برد.(2) الأعلام 8 ص 108/109 حيث أبدل الكلمات التالية المعروفة بكلمات تساويها في المعنى، فقال: (أبو معاذ عوض بشار (ابن برد) والمشَنَّف عوض المُرَعَّث، وهو لابس الرعاث وهو القرط الذي من أسمائه الشنف، والغالية عوض الرافضة، ومنزله عوض (داره)، ويبعج بطنه عوض يبقر، فلماذا لم يجعل كتبه السابقة التي عي بعض ألفاظها حرف الراء فيجعل «أصناف المُرْجِئَة...» و«معاني القرآن..» و«السبيل إلى معرفة الحق»، لأن لهذه الكلمات ما يساويها في العربية مثلما رأينا في الكلمة التي قالها في إهدار دم بشار بن برد، ويستطيع أن يعوض المرجئة بالمؤجلة، والقرآن بكتاب الله أو بغيرها من أسمائه الكثيرة التي تخلو من حرف الراء، والمعرفة يستطيع أن يعوضها بالعلم أو غيرها مما يدل عليها، ولكنه لم يفعل في عناوين كتبه، وأكبر الظن أنه لم يفعل في محتويات كتبه، ولم يفعل ذلك إلا في بعض كلامه الذي يخاطب به الناس مما يجد له بديلا مثل (التكبير) في الصلاة (والرحمن الرحيم) في بداية الفاتحة، ولا يستطيع أن يتجب الراء إلا بعدم قراء سورة الكوثر، وسورة القدر وأمثالهما كما ذكرنا آنفا.
لذلك أستبعد أن يكون واصل متجنبا لحرف الراء باستمرار ولكنه يعمد إلى تجنبها في حواره وحديثه مع الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إذ كيف يجوز له أن يتجنب هذا الحرف في قراءة (القرآن الكريم) ونحن نعلم أنه، إذا صلى، يقرأ الفاتحة وهي تشتمل على ست راءات وفي المذهب الشافعي يقرؤون البسملة قبل الفاتحة وهي تشتمل على راءين، وإذا أمكن له أن يتجنب المعوذتين لاشتمالهما على الراء، وأن يقرأ بدلهما سورة الإخلاص: (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد) التي لا يوجد فيها هذا الحرف فإنه لا يمكن أن يعوض الفاتحة بغيرها إذ لا تجوز الصلاة بغير الفاتحة.