كانت اللغة العربية في نشأتها سجية، وكان الشعر ديوان العرب يخلد نمط حياتهم ويؤرخ لأفراحهم وأتراحهم وحربهم وسلمهم وبقيت العربية كذلك الى قرون عديدة قبل أن يعتريها الضعف واللحن وتدخلها الألفاظ والكلمات العامية، وهو ما استوجب تقعيد القواعد النحوية والصرفية والرسمية حفاظا عليها باعتبارها لغة القرآن العظيم وعنوان الهوية العربية الإسلامية على مر العصور والأزمان، وبعد صدر الإسلام والدولة الأموية والدولة العباسية حافظت اللغة العربية على سلامتها وبلاغة تعبيرها وقدرتها على الإبداع نثرا وشعرا، ولا أدل على ذلك مما حفلت به كتب الأدب العربي من روائع القصص والأخبار العجيبة الدالة على قدرة هذه اللغة على أن تعبر على معنى واحد بأساليب كثيرة التنوع حروفا وكلمات وجملا وحركات فقد روى لنا التاريخ أن الخليفة العباسي هارون الرشيد كان مارا صحبة وزيره جعفر البرمكي في جولة استطلاعية وإذا بجمع من البنات يستقين الماء فعرج عليهن يريد الشرب فسمع إحداهن تنشد هذه الأبيات: قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت المنام كي أستريح وتنطفي نار تؤجج في العظام دنف تقلبه الأكف على بساط من سقام فأعجب الخليفة بفصاحتها وقال لها: هل هذا من قولك أو من منقولك؟؟؟ قالت: هو من قولي. قال: إذا كنت صادقة فحافظي على المعنى وغيري القافية فأنشدت تقول: قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الوسن كي أستريح وتنطفي نار تؤجج في البدن دنف تقلبه الأكف على بساط من شجن أما أنا فكما علمت فهل لوصلك من ثمن؟ فقال لها: وهذا مسروق وليس من قولك. قالت: بل هو كلامي. فقال لها: هل تستطيعين المحافظة على المعنى وتغيير القافية؟؟؟ قالت: نعم وأنشدت: قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الرقاد كي أستريح وتنطفي نار تؤجج في الفؤاد دنف تقلبه الأكف على بساط من حداد أما أنا فكما علم ت فهل لوصلك من سداد؟ فقال لها: وهذا أيضا مسروق فإن كان من كلامك فأمسكي المعنى وغيري القافية، قالت: نعم وأنشدت: قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الهجوع كي أستريح وتنطفي نار تؤجج في الضلوع دنف تقلبه الأكف على بساط من دموع أما أنا فكما علم ت فهل لوصلك من رجوع وهنا اشتد اعجاب هارون الرشيد بهذه الفتاة وبشدة ذكائها وبقدرتها الفائقة على التصرف في اختيار الكلمات المترادفة في أشعارها وسألها: من أي هذا الحي أنت؟؟؟ قالت: من أوسطه بيتا وأعلاه عمودا، ففهم أنها بنت كبير الحي، ثم إنها سألته: وأنت من أي راعي الخيل؟؟؟ فقال: من أعلاها شجرة وأينعها ثمرة، فقبلت الأرض بين يديه وقالت: أيد الله أمير المؤمنين ودعت له بخير ثم انصرفت مع بنات حيها، فازداد الخليفة تعلقا بها واتصل بوالدها فخطبها منه وتزوجها وكانت عنده من أعز نسائه عليه، وهكذا كان للأدب وللشعر مكانته وكان للمرأة العربية منزلتها التي لا تضاهى في النهل من ينابيع لغة الضاد، والقدرة على الإرتجال والتفنن في أغراضها ومعانيها شعرا ونثرا.