دُعِيت ، قبل سنوات قليلة ، إلى إعداد أنطولوجيا تضمّ نماذج من القصائد التي كتبها الشعراء التونسيّون احتفاء بالثورة الجزائريّة..وقد اكتشفت ، بعد أن استسهلت ، في البدء ،عمليّة الجمع والاختيار ، أنّ الشعر التونسيّ الذي دار حول هذه الثورة كثير لا يمكن ، بأيّة حال ، محاصرته والظفر بكلّ نصوصه، فهو مبثوث في الصحف والمجلاّت والدواوين الشعريّة، وربّما ظلّ بعضه مخطوطا لم يحظ ،بالنشر، رغم مرور عقود طويلة على نظمه. هكذا وجدتني أعود إلى هذه القصائد في مظانّها، مستعينا ببعض أصدقائي، أجمع كلّ القصائد التي دارت حول الثورة الجزائرية . وفي هذا السياق أريد أن أشير إلى أنّ أكثر الشعر الذي كتب عن الثورة الجزائريّة كان قد نشر في مجلّة الفكر لصاحبها المرحوم محمد المزالي..وحين أعفي الرجل من وظائفه السياسية سحبت كلّ كتبه مع جميع أعداد مجلّة الفكر من رفوف المكتبات العموميّة إمعانا في محاصرته...لهذا وجب البحث عنها إمّا في أرشيف المكتبات العموميّة ، وهو ، في ذلك الوقت ، لم يكن يحظى بالرعاية والحماية .وإمّا في المكتبات الخاصّة..وهذه المكتبات لم تكن تتوفر ، في الأغلب الأعمّ ، على كلّ الأعداد..
لكنّي تمكنت ، رغم هذه الصعوبات، من جمع عدد هائل من القصائد التي تتميّز بتنوّعها وتعدّدها.. هذه القصائد التي جمعْت كان بعضها مطوّلا وبعضها كان قصيرا ، الكثير منها التزم بالسنّة الشعريّة واحتفى بمراسم الإنشاد القديمة، والقليل منها خرج على الأوزان التقليدية ومضى يؤسس لنفسه طريقة في تصريف القول جديدة. كيف نبرّر هيمنة الشعر التقليدي على هذه المدوّنة؟ ولماذا لم يفض شعر الثورة إلى إحداث ثورة في الشعر التونسي أو المغاربيّ ؟ إنّ المتأمّل في تاريخ الأدب يلحظ أنّ بعض المنعطفات التاريخيّة تفرض على الشعر العودة إلى الأصول يتشبّث بها خاصّة إذا كانت هذه الأصول مهدّدة بفعل قوى خارجيّة تريد طمسها أو إلغاءها.
لكن على الرغم ، من كلّ هذه المآخذ ،فإنّني قرأت هذا الشعر بمتعة وفرح كبيرين إذ مثّل بالنسبة إليّ تجربة شعريّة لها لونها المتميّز، وهو، فوق ذلك ، مثّل شهادة على أنّ العلاقة ، في تلك المرحلة ، بين نصّ العالم وعالم النصّ لم تنفصم بعد. فالشاعر كان يكتب وعينه على العالم يرقبه ، أو ينقده ، أو يقوّمه ، إنّه آخر عصور «الشعراء الفرسان» الذين يعتبرون الكتابة ضربا من ضروب الاحتجاج والرفض.
كثيرون هم الشعراء التونسيّون الذين كتبوا عن الثورة الجزائريّة، (هل نقول كلهم؟) بعضهم كان من أشهر الشعراء التونسيين، في ذلك الوقت، مثل الشاذلي عطاء الله والناصر صدام وجلال الدين النقاش وبعضهم كان في مستهلّ حياته الشعرية مثل الشاعرين جعفر ماجد ونور الدين صمود وبعضهم بات مجهولا لم أتمكّن ، رغم مساعدة بعض الأصدقاء ، من التعرّف إليه.
ولعلّ أبرز الشعراء التونسيّين الذين أولوا الثورة الجزائريّة كلّ عنايتهم هو الشاعر الكبير منوّر صمادح إذ جعل من هذه الثورة إيقاعا ثابتا في قصائده .يقول الناقد محمد صالح الجابري في دراسته الموسومة» التواصل الثقافي بين تونسوالجزائر «متحدّثا عن منوّر صمادح «واحد من شعراء الخمسينات شارك في الكتابة عن الجزائر قبل انطلاق ثورتها المسلّحة ، وواكب في شعره أحداث الثورة طيلة مرحلة الكفاح ، ثمّ كان من الشعراء القلائل الذين أتاحت لهم الظروف بأن ينتقلوا إلى هذا البلد الشقيق وفضلا عن ذلك فإنّ منوّر صمادح يعدّ الشاعر التونسيّ الذي تفرّد بإصدار ديوان كامل عن الجزائر ، ضمّنه معظم ما كتب من قصائد عن هذا القطر الشقيق وأصدره بعنوان «السلام على الجزائر».
إنّ هذه المجموعة الشعريّة التي تضمّ قصائد تنتمي إلى فترات مختلفة من حياة الشاعر ينتظمها سلك جامع وهو الإشادة بالثورة الجزائريّة بوصفها استشرافا لعالم جديد ولتاريخ مختلف: إنّها على حدّ عبارة الشاعر «ثورة الإنسان حطّم قيده» لهذا كان انتصارها انتصارا للإنسان على وجه الحقيقة والإطلاق على حدّ عبارة ابن عربي. وقصائد منوّر صمادح مزيج عجيب من تيارات شعرية مختلفة، بعضها يحيلنا على الشعر الإحيائي وبعضها على الشعر الرومنطيقي، وبعضها يحيلنا على ما يسمّى بالشعر الملتزم.هذه التيارات على اختلافها كانت تعيش داخل هذه القصائد في كنف العافية ...فشعر منوّر صمادح هو خلاصة الشعر التونسيّ في تلك المرحلة يفصح عن تعدّد أشكاله ، وتكاثر رؤاه .وهو في الوقت ذاته صرخة غضب، في وجوه كلّ المستعمرين تتجاوب مع صرخة الشابي دون أن تكون إيّاها..