نكبتُنا في نخبتنا! هكذا قال السيّد حمادي الجبالي لجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 8 ديسمبر 2012، مضيفًا عبارة أخرى إلى قائمة العبارات «السحريّة» التي سرعان ما يبْطُل سحرُها ولا يبقى منها إلاّ «ضِيقُها» ونتائجها العكسيّة. المطلوب، طبعًا، من هذه العبارة و«أخواتها» إيجادُ بديل عن الاعتراف بالخطإ: تعليق المسؤوليّة على شمّاعة الآخر بدايةً من «عشب الملعب» وصولاً إلى «نخبتنا»! حسنًا!! في أيّ نخبتنا نحن منكوبون؟
أوّلُ ما يقفز إلى الذهن ذلك التمثُّل البدائيّ لهرَمٍ اجتماعيّ يرتع في قاعدته الأراذل ويتربّع على قمّته الأفاضل! وليس علينا أن نسير طويلاً عكسَ اتّجاه التاريخ إلى حيث الأولمب اليونانيّ كي نعثر على تجلّيات هذا الفهم، فهو حاضر في جلّ اللغات: انْتَخَبَهُ اخْتَارَهُ. ونُخْبَةُ القَوْمِ أفضلُهم. فهل يريد رئيس حكومتنا المؤقّتة الموقّر إقناعنا بأنّ نكبتنا في خيارنا وأفضلنا؟ الحقُّ أنّ السيّد حمّادي الجبالي بدا حريصًا على تجنّب الغموض وسوء التأويل. لذلك أحاط عبارته بعدد من التحصينات وبأكثر من تدقيق: التدقيق الأوّل يتمثّل في تأكيده على أنّه يعني النخبة السياسيّة التونسيّة.. والتدقيق الثاني يتمثّل في قوله إنّه يقصد تلك النخبة السياسيّة التي «لم تشارك في الثورة وكانت أغلبها مع النظام السابق إلاّ القليل من المقاومين في كل المجالات السياسية والإعلامية والثقافية إلى آخره. وكلهم تقريبا الآن انقلبوا وصاروا ثوارا ويتصدّرون الثورة زورا وبهتانا.. » المشكلة أنّ في كلٍّ من هذين التدقيقين مشكلة!
أمّا إشارته إلى النخبة السياسيّة فهي في النهاية موقف نقديٌّ من الانتخابات. جاء في المعجم: المُنْتَخَبُون من النَّاس المُنْتقَوْنَ. وانْتَخَبَ من القَوْمِ اختار منهم. فهل يعني رئيس حكومتنا الموقّر أنّ نكبتنا في سياسيّينا المنتخبين؟ وأمّا إشارته إلى من لم يُشارك في الثورة «وصاروا اليوم ثُوّارًا يتصدّرون الثورة» فهي في النهاية موقف نقديٌّ من زملائه وحلفائه وممثّليه في شتّى المناصب والمؤسّسات. هؤلاء هم النخبة السياسيّة ولا أحد غيرهم يتصدّر الثورة!! فهل يعني رئيس الحكومة أنّ نكبتنا في أكثريّتنا الحاكمة؟ هل هو تواضُع الكبار ونقد الذات؟!
أيًّا كان الأمر فقد لعبت النخبة مرغمة دور كبش الفداء في أكثر من مرحلة تاريخيّة وفي أكثر من حضارة. ما أن يخشى الحاكم مغبّة حُكْمِه حتى يُسرع بتقديم النخبة قربانًا لضحاياه، ينشغلون بها عنه وينفّسون عن غضبهم. ما أن يعجز نظامٌ عن أن يكون شعبيًّا بالمعنى الحقيقيّ للكلمة حتى ينقلب إلى نظام شعبويٍّ عن طريق تأليب الرأي العامّ على النخبة. تغيّر مفهوم النخبة بشكلٍ يكاد يكون جذريًّا اليوم. ولسنا في حاجة إلى استعراض ما كُتب بدايةً من أفلاطون مرورًا بماركس وصولا إلى باريتو وميلز وغيرهم كي نكتشف أنّ البناء الهرميّ لم يعد قادرًا على فهم المجتمعات الراهنة. حطّمت التكنولوجيا الجديدة عمودَ السلطة ونسفت الثورةُ الرقميّة ثنائيّةَ القمّة والقاعدة وكسرت احتكار المعلومة وبلبلت مرجعيّات المفاضلة على غرار بلبلة اللغات ورسّخت في المشهد ثقافة جديدة قائمة على مبادئ: الأفقيّة والنديّة والتفاعليّة. لقد حدث لمفهوم النخبة ما حدث للقصيدة العموديّة. تمرّدت القصيدة على عمودها واسترجعت حقّها في خوض مغامرتها خارج كلّ السكك الجاهزة إلى حدِّ معانقة نقيضها واستمداد هويّتها الشعريّة من النثر نفسه. هكذا انفجرت النخبة إلى نُخَب ولم يعد من الصعب على أيّ فرد من أفراد الشعب أن يكون جزءًا من نخبة ما، خاصّةً حين يرفض صوته مُطالبًا بحقوقه وحريّاته. في هذا السياق قد يصحّ الزعم بأنّ عبارة «نكبتنا في نخبتنا» ليست سوى قناع لعبارة «نكبتنا في شعبنا»، وهي صرخة السياسيّ الذي يغيظه أن لا ينصاع له شعبه كما يريد! معنًى لا يمكن أن تجري به ألسنة السياسيّين إلاّ إذا كانوا من غير المؤمنين بالديمقراطيّة. وهؤلاء يصحّ فيهم القول دون شكّ: نكبتُنا في نخبتنا. فهل هذا هو المعنى الذي ذهب إليه رئيس الحكومة؟ وإذا صحّ ذلك فهل هو إعلانٌ مقصود وبيان مُحدّد العنوان، أم نتيجة فكرٍ متوارٍ ولسانٍ خوّان؟!