كشفت المشاورات الجارية حول تشكيل الحكومة الجديدة عن «أزمة» قديمة جديدة في لغة الخطاب السياسي لدى الأطراف السياسية في الحكم وفي المعارضة. تتواصل الحياة السياسية بالتصنيف القائم منذ 23 أكتوبر 2011 وكأنّ البلاد لا تمرّ بأزمة في الحكم أو كأنها لم تشهد تجربة في الحكم الائتلافي انتهت إلى ما انتهت إليه حتى صرنا نرى الأخطاء ذاتها تتكرّر والخشية كل الخشية أن يفضي ذلك إلى ضعف الإجماع حول حكومة علي العريض المرتقبة.
ما يقود إلى التحذير من هذا الاستنتاج أنّ منطق الأطراف السياسية المشاركة في المشاورات لم يتغيّر كثيرا عمّا كان عليه خلال المشاورات التي سبقت تشكيل حكومة حمادي الجبالي في نوفمبر 2011 وبدا أنّ المنطق ذاته هو الذي يحرّك كلا الطرفين: الترويكا أو ما بقي منها تبدو ماضية في النهج ذاته القائم على المحاصصة الحزبية أو على الأقل على تغليب شق السياسيين من الوزراء على شق المستقلين أو «التكنوقراط» وأطراف المعارضة عموما لم تغادر موقعها ولا موقفها المعارض لكل شيء ولكل خطوة تأتيها حركة «النهضة» في سياق مساعي إعادة تشكيل الحكومة.
ما يُعاب على شق واسع من المعارضة (وأساسا الحزب الجمهوري والمسار والجبهة الشعبية) أنّ قراءته للمرحلة الحالية التي تمر بها تونس للأسف قائمة على منطق خاطئ، فمن هذه الأطراف من يدعو إلى التوافق ولا يبدي استعدادا للانخراط فيه أو لا يقدّم تصورا واضحا لمعنى التوافق وسبل تحقيقه، ومن هذه الأطراف من يدعو إلى مؤتمر وطني للإنقاذ لكنه لا يضع رؤية واضحة لهذا المسار بل وهذا الأخطر لا يضع في اعتباره أنّ مرحلة ما بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 مختلفة تماما عن المرحلة التي سبقت هذا الموعد وأنّ فشل تجربة الحكم إن صحّ أن نعتبره فشلا لا تتحمل مسؤوليته الأطراف الحاكمة فحسب بل هو راجع أيضا إلى أداء المعارضة في المرحلة التي تلت الانتخابات التأسيسية إلى حين إعلان رئيس الحكومة حمادي الجبالي استقالته.
عيوب وأولويات
وما يُعاب على هذه الأطراف أيضا أنّها تعاملت مع المشاورات الاخيرة حول تشكيل الحكومة بكثير من الإجحاف ووضعت شروطا للانخراط في الحكومة لا تتماشى مع دعوتها للتوافق وحديثها عن ضرورة وضع اليد في اليد لإنقاذ تونس ولا مع مقولة إن تونس تحتاج كل أبنائها وكل طاقاتها... فضلا عن أنّ رؤيتها لبرنامج الحكومة الجديدة خاطئة فمن بين الشروط التي وضعتها أن تعمل الحكومة الجديدة على فتح ملفات الفساد وأن توفر التنمية في الجهات وأن تعيد النظر في التعيينات التي حصلت على رؤوس مؤسسات الدولة خلال حكومة الجبالي... وهي تدعو في الآن ذاته إلى أن لا يتجاوز عمل هذه الحكومة الستّة أشهر أو السبعة أشهر على أن تجري الانتخابات في الخريف المقبل وقبل موفى العام الحالي على أية حال.
صحيح أنّ مطلب تحديد جدول زمني لعمل الحكومة الجديدة ولإجراء الانتخابات هو محل إجماع وهو مطلب صار أكثر إلحاحا مع هذا الواقع الجديد لكنّ المطالبة بتسيير شؤون البلاد إلى حين موعد الانتخابات والمطالبة بفتح الملفات الكبرى وتحقيق التنمية خلال أشهر قليلة مطلبان لا يلتقيان حتما ويعبران عن سوء فهم لمتطلبات المرحلة او رغبة في التعجيز والتعطيل.
وفي المقابل لم يتغيّر خطاب حركة «النهضة» كثيرا منذ أن تشكلت حكومة الجبالي ومرورا بالحديث عن التعديل الوزاري وصولا إلى الاستقالة وتكليف العريض بتشكيل الحكومة الجديدة... لم يتغير منطق التمسك ب«الشرعية الانتخابية» ولم تخرج الحركة عن سياق المحاصصة الحزبية التي أدّت إلى ما أدّت إليه من فشل تجربة «الترويكا» واستقالة رئيس الحكومة، وبدا أنّ أقصى ما يمكن ان تقدّمه «النهضة» تحييد وزارات السيادة الذي كان مطلبا ملحّا من طائفة واسعة من المعارضة.
أخطاء ومحاذير
لكن الأخطر من ذلك أنّ حركة «النهضة» اعتمدت منطقا إقصائيا في رؤيتها لتركيبة الحكومة المقبلة حين أكّدت أن لا مكان لحركة «نداء تونس» فيها، ومن ثمة أعطت ذريعة لأطراف معارضة للامتناع عن المشاركة في الحكومة الجديدة وتوسيع دائرة الائتلاف والتوافق، هذا الموقف المتصلب للحركة أدّى على ما يبدو إلى انقطاع التواصل مع الحزب الجمهوري خاصة بما أنّ الحزب منخرط في جبهة «الاتحاد من أجل تونس» التي تضم حركة «نداء تونس» ولا مفرّ من العودة إلى الجبهة لتقرير الموقف النهائي للحزب ومن ثمة كان من المنطقي أن لا تمدّ هذه الجبهة يدها لمن أقصى طرفا فيها.
خلاصة القول إنّ التوافق الذي يتحدث عنه الجميع لم تتوفر شروطه ولا استحقاقاته والتنازل المطلوب من الجميع لم نر له أثرا والرغبة في الإنقاذ ليست سوى كلام عابر يلقيه هؤلاء وهؤلاء بلا معنى ولا استعداد لتحمّل وزر المسؤولية في ذلك...والحكومة «المصغرة» التي يُفترض أن تقود البلاد في ما تبقى من المرحلة الانتقالية تأبى أن «تتصاغر» وتتصاغر معها لهفة من تلذذوا السلطة على النهل من المزيد منها دون اعتبار لخصوصية المرحلة ولا لمصلحة البلاد... وهذا هو مربط الفرس.