تتواصل التجاذبات السياسية حول مبادرة رئيس الحكومة حمادي الجبالي تشكيل حكومة كفاءات غير حزبية... المبادرة وضعت الجبالي في مأزق وجرّت حركة «النهضة» إلى مربع الانقسام أو ربما الانخراط في المعارضة... فكيف سيكون المخرج؟ منذ إعلانه قبل أسبوع مبادرة تشكيل حكومة كفاءات غير حزبية تتولى تسيير ما تبقى من المرحلة الانتقالية وتهيئ لإجراء الانتخابات القادمة بدا رئيس الحكومة حمادي الجبالي كرجل دولة أكثر منه رجل حزب يتمتع بالأغلبية في المجلس التأسيسي.
رسائل إلى «النهضة»
الجبالي الذي عاد بعد يومين ليؤكّد تشبثه بمبادرته واعتبارها المخرج الوحيد للمأزق الذي وصلت إليه البلاد وجّه رسائل قوية إلى حركة «النهضة» أكثر من تلك التي وجهها إلى خصومها مفادها أنّ المصلحة الوطنية تقتضي الابتعاد عن التفكير بمنطق الغنيمة والمحاصصة بل ربما تقتضي شيئا من القفز على «الشرعية الانتخابية» وتقديم تنازلات تبدو ضرورية للخروج من المأزق.
وقد بدا واضحا أنّ الجبالي اتخذ القرار دون استشارة أي طرف كما أكد هو بنفسه بدليل أنه لم يفكّر في الجانب القانوني لتنفيذ هذه المبادرة إنّما وضع في اعتباره الجانب السياسي فحسب ربما لأنه يدرك انّ في القانون قراءات مختلفة تؤمّن مخارج ممكنة وقابلة للتنفيذ في مطلق الأحوال وإن لم يتفق حولها الجميع.
وذهب الجبالي إلى حدّ التلويح بالاستقالة إن لم تنجح مبادرته وهو بذلك يؤكّد أنّه اختار طريقه وهو يعلم أنها لن تكون سالكة، فالجبالي يبدو في مأزق كبير بل في حالة تمزّق بين الحركة التي نشأ فيها والتي أكّد في خطابه يوم الجمعة الماضي اعتزازه بالانتماء إليها وقد وصفها بالحزب الديمقراطي الذي لديه مؤسسات تتخذ القرار، وبين مستقبله السياسي الذي ربما يفترض الانسلاخ عن حزبه خاصة أنّ استطلاعات الرأي أكّدت أن ما لا يقل عن 71 % يساندون مبادرته وأنّ استطلاعات أخرى تحدثت عن تراجع في نسبة شعبية حركة «النهضة» بسبب الأخطاء الكثيرة التي وقعت فيها وتمسّكها بمنطق المحاصصة الحزبية في التعاطي مع أزمات البلاد.
ما يؤكّد هذا التمشي أنّ «النهضة» رفضت مقترح رئيس الحكومة تشكيل حكومة تكنوقراط مصغرة غير متحزبة مقترحة كبديل حكومة توافقية بكفاءات سياسية.
وقال رياض الشعيبي عضو المكتب السياسي للحركة إنّ «النهضة» تجري حاليا مشاورات حول هذا المقترح أساسا مع شريكيها في الائتلاف الحاكم، المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات مضيفا أنّ الحركة «حريصة على توسيع دائرة المفاوضات لتشمل أحزابا سياسية أخرى لها استعداد للتشاور.» ولا يختلف موقف الحركة كثيرا عمّا كان عليه الحال قبل إطلاق مبادرة الجبالي حيث كان خطابها بخصوص رؤيتها للتحوير الوزاري يصب في هذا الاتجاه وهذا يعني أنّ «النهضة» تقاتل اليوم من أجل الحفاظ على «الترويكا» وفي ذلك هروب إلى الأمام وتشبث بخيار لم يعد له ما يبرّره أو لم يعد يحظى بالثقة التي كان يحظى بها لدى تشكيل الحكومة وإن كان المضي في ذلك الخيار محلّ انتقادات من طرف المعارضة منذ اليوم الأول.
مأزق ذو بعدين
ويبدو أنّ الأمور متجهة اليوم إلى مزيد من التأزّم على المستوى السياسي والحزبي تحديدا أي من داخل حركة «النهضة» للاعتبارات التالية: أنّ الحركة اعتبرت مضي الجبالي في هذا النهج غير مقنع وهي مع ذلك تعلن إعادة ترشيحه مرة أخرى لرئاسة الحكومة في صورة استقالته من منصبه الحالي كما صرح بذلك رئيس مجلس شورى الحركة فتحي العيادي الذي علّق بأنّ الجبالي «يستحق هذا التكريم والتشريف» وأنه «شخصية سياسية مهمة ونحن نحافظ عليها والنهضة ستقف إلى جانبه» على حد تعبيره ويبدو هذا الموقف غريبا لأنه لا يلبي طموح الجبالي ولا شروط المعارضة في تشكيل حكومة كفاءات غير حزبية والقطع مع منطق المحاصصة.
أنّ حركة «النهضة» وبعد استكمال المشاورات داخل مجلس الشورى أو داخل مكتبها التنفيذي وخاصة داخل كتلتها بالمجلس التأسيسي وإذا ما غلب الشق الرافض لمبادرة الجبالي قد تجد نفسها في صف المعارضة أو الجهة المعطّلة لتشكيل الحكومة الجديدة إذا ما تبيّن أنّ عرض التشكيلة الحكومية الجديدة على المجلس التأسيسي ضروري لنيل الثقة، وبذلك ستنقلب الأدوار خصوصا مع تأييد طائفة واسعة من قوى المعارضة لما ذهب إليه الجبالي والأخطر من ذلك أنّ «النهضة» إذا ما ادركت هذه النقطة ستفقد الكثير من مصداقيتها وستظهر بمظهر من يعطّل مصالح البلد عبر عرقلة تشكيل الحكومة والتمديد في حالة الفراغ (وهو ما كانت تعيب عليه المعارضة) فضلا عن أنها ستخسر رجل دولة بدأ يكتسب الخبرة السياسية من خلال منصب رئاسة الحكومة الذي يتولاه منذ اكثر من سنة واستفادته من الأزمات والاخطاء والهزات التي مرت بها حكومة الائتلاف.
أنّ الحركة قد تجد نفسها معزولة حتى داخل «الترويكا» التي تتمسك بها إلى اليوم خاصة بعد أن أكّد حزب التكتل موقفه الصريح والنهائي من مبادرة الجبالي وقرر السير وراءها حيث دعا رئيس المجلس الوطني التأسيسي والأمين العام لحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات مصطفى بن جعفر أمس حركة النهضة وكل الأطراف السياسية إلى مساندة مبادرة حمادي الجبالي بتشكيل حكومة كفاءات وطنية وتغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية.
وقال بن جعفر «أنا متأكد من أن المصلحة الوطنية هي التي ستعلو لدى قيادات النهضة» معتبرا أنّ اقتراح تشكيل حكومة كفاءات وطنية هو امتداد لموقف التكتل وذلك لإبعاد وزارات السيادة عن التجاذبات السياسية.
دهاء الجبالي والمخارج الممكنة
أمّأ من الناحية القانونية فتبدو الأمور شبه محسومة لفائدة الجبالي رغم اختلاف القراءات لقانون التنظيم المؤقت للسلط العمومية فقد بادر رئيس الحكومة بلقاء أستاذ القانون الدستوري عياض بن عاشور قبل أن يوسع المشاورات لتضم عددا كبيرا من فقهاء القانون الدستوري ومن بينهم قيس سعيّد والصادق بلعيد وشفيق صرصار وامين محفوظ وغيرهم.
الجبالي سعى من خلال تلك المشاورات إلى إيجاد مخرج قانوني للأزمة السياسية التي تمر بها البلاد ويبدو أنّه تلقى تطمينات خصوصا من عياض بن عاشور وقيس سعيد، بالنظر إلى أنّ تأويل بن عاشور للفصل القانوني الخاص بحالات عرض الوزراء الجدد في الحكومة بعد تعديل جزئي على المجلس التأسيسي من عدمه يفتح الباب أمام الجبالي للقيام بتحوير واسع يشمل معظم الوزارات مع الإبقاء على المستقلين من الوزراء في الحكومة الحالية، دون عرض الوزراء الجدد على التأسيسي لنيل الثقة، وهو ما ييسّر من مهمة الجبالي في المضي بمبادرته إلى النهاية.
لكن هذا الاحتمال ليس الوحيد لأنّ هناك سيناريوهات أخرى منها سحب الثقة من الحكومة الحالية وإعادة توزيع الأوراق قد تحصل وإن كانت مستبعدة عمليا. واعتبر أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد أن رئيس الحكومة بإمكانه إنجاح مبادرته بإدخال تعديلات على قراره والقيام بتحوير جزئي أو تحوير واسع وبالتالي ليس هناك ما يستوجب عرض قراره على المجلس التأسيسي .
وأوضح سعيد أن سحب الثقة من رئيس الحكومة رهين الانسجام داخل كتلة النهضة لأن الانقسام يخدم رئيس الحكومة ومساندة بعض الأطراف له من النهضة قد يؤثر على الائتلاف القادم فإذا حصل نوع من التوتر والانشقاق فستتكون أغلبية جديدة إذ يكفي أن ينسحب عضو من كتلة حتى تتغير التوازنات وهو ما يجعل كل الاحتمالات ممكنة. المخارج من الأزمة تبدو إذن متعدّدة ولكن الموقف النهائي لحركة «النهضة» من مبادرة الجبالي هو الذي سيحدّد إلى حدّ كبير ما إذا كانت ستبلغ مداها وتحقق أهدافها أم لا.