أعادت ذكرى وفاة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الى السطح التجاذبات السياسيّة حول مرحلة مهمّة من تاريخ تونس الحديث. التجاذبات ليست بالجديدة وهي متلبّسة بالأذهان والعقول منذ القدم ولكنّها ازدادت حدّة ما بعد الثورة حيث عاد «الزعيم» كمرجعيّة لطيف يتمسّك بالمدرسة الدستوريّة ومكاسبها في فترتي مقاومة الاستعمار وبناء الدولة التونسيّة وكواجهة للتسويق السياسي والحزبي لدى البعض وكمعول للهدم ونشر المزيد من الفتن لدى آخرين وأوشكت تلك الحدّة ان تُقسّم التونسيّين بين بورقيبيّين وغير بورقيبيّين. ومن المؤكّد انّ التجربة البورقيبيّة ستظلّ محطّ أنظار المؤرخين والسياسيّين على حدّ السواء ، فامتدادها الزمني الهام لأكثر من خمسة عقود وما راكمتهُ من مكاسب ومنجزات وما تلبّس بها من غموض وفترات مظلمة وقاتمة يجعلُها التجربة الأهم في تاريخ تونس الحديث حيثُ على وقعها حقّقت البلاد استقلالها وبجهدها وُضعت اولى لبنات ومرتكزات الدولة التونسيّة الحديثة والمستقلّة وفي ظلّها نشأت جلّ العائلات الفكريّة والسياسيّة كما انّها كانت الحاضنة الام للمنظمات الوطنيّة والجمعيات والمهد الاول لنشر التعليم والثقافة والصحّة وتحرير المرأة وتركيز الخدمات الاداريّة والعموميّة الاساسيّة.
انّ الاختلاف اليوم حول تقييم التجربة البورقيبيّة لا يجبُ ان يفتح الباب امام المزيد من التباعد والفرقة بل عليه ان يكون اختلافا بنّاء يُعزّزُ وحدة التونسيّين في القراءة النقديّة الموضوعيّة لأهم فترة في تاريخهم الحديث فيُعملُون العقل ،لا العاطفة، في استثمار نقاط القوّة الٌتي ميّزت حكم الراحل الحبيب بورقيبة والتأسيس عليها لتجاوز كلّ الهنات والسلبيات والانطلاق نحو المستقبل الافضل لا اجترار مآسي الماضي وآلامه - وهي حقيقة موضوعيّة لا اختلاف حولها- والسقوط في استنساخ مذلّ لنمط حكم وسلطة ودولة لم يكن بكلّ المقاييس ديمقراطيّا وعادلا. سيبقى بورقيبة، بالمنطق العقلي والموضوعي، رمزا للتاريخ المشترك بين التونسيّين والتونسيّات وبإمكان الفاعلين السياسيّين اليوم ان يجعلُوهُ رمزا للحاضر والمستقبل اذا ما ابتعدوا عن التطرّف في التعامل مع الإرث البورقيبي تمجيدا وتقديسا او حقدا وكراهيّة.
انّ النظرة النقديّة للتجربة البورقيبيّة ، وهي تجربة مُعرّضة كغيرها من التجارب الانسانيّة الى ثنائيّة الخطإ والصواب، وتمحيص مختلف اطوارها وتقلّباتها ومراحلها للوقوف عند حقيقة الميكانيزمات التي كانت تُحرّكُها وطبيعة الفلسفة التي قادتها، تلك النظرة وذلك التمحيص شيئان مهمّان للترحّم الصادق على الزعيم الراحل وإلحاق المزيد من الغفران والحسنات الى روحه.