رئيس الجمهورية يلتقي وزير الشؤون الخارجية والتجارة المجري    عاجل : تأجيل قضية رضا شرف الدين    مليار دينار من المبادلات سنويا ...تونس تدعم علاقاتها التجارية مع كندا    إنهيار سد يتسبب في موت 42 شخصا    بطولة الرابطة المحترفة الاولة (مرحلة تفادي النزول): برنامج مباريات الجولة التاسعة    الرابطة الأولى: تفاصيل بيع تذاكر مواجهة الترجي الرياضي والنادي الصفاقسي    الرابطة الأولى: تعيينات مواجهات الجولة الثانية إيابا لمرحلة تفادي النزول    كأس تونس لكرة اليد: برنامج مقابلات المؤجلة للدور ربع النهائي    الاعتداء على سائق 'تاكسي' وبتر أصابعه: معطيات جديدة تفنّد رواية 'البراكاج'    4 جرحى في اصطدام بين سيارتين بهذه المنطقة..    إطلاق النار على سكّان منزل في زرمدين: القبض على المتّهم الثاني    زيادة في أسعار هذه الادوية تصل إلى 2000 ملّيم..    "بير عوين".. رواية في أدب الصحراء    بعد النجاح الذي حققه في مطماطة: 3 دورات أخرى منتظرة لمهرجان الموسيقى الإلكترونية Fenix Sound سنة 2024    بنزرت: طلبة كلية العلوم ينفّذون وقفة مساندة للشعب الفلسطيني    الحماية المدنية: 17 قتيلا و295 مصابا في ال 24 ساعة الماضية    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان المغربي يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    الخارجية الإيرانية تعلّق على الاحتجاجات المناصرة لغزة في الجامعات الأمريكية    وزير الخارجية الأميركي يصل للسعودية اليوم    نقطة ساخنة لاستقبال المهاجرين في تونس ؟ : إيطاليا توضح    مدنين : مواطن يحاول الإستيلاء على مبلغ مالي و السبب ؟    نشرة متابعة: أمطار رعدية وغزيرة يوم الثلاثاء    17 قتيلا و295 مصابا في ال 24 ساعة الماضية    عاجل/ تعزيزات أمنية في حي النور بصفاقس بعد استيلاء مهاجرين أفارقة على أحد المباني..    %9 حصّة السياحة البديلة.. اختراق ناعم للسوق    قيس الشيخ نجيب ينعي والدته بكلمات مؤثرة    منوبة: تقدّم ّأشغال بناء المدرسة الإعدادية ببرج التومي بالبطان    ما حقيقة انتشار "الاسهال" في تونس..؟    تونس : ديون الصيدلية المركزية تبلغ 700 مليار    هام/ بشرى سارة للراغبين في السفر..    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    أخيرا: الطفل ''أحمد'' يعود إلى منزل والديه    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    التونسيون يتساءلون ...هل تصل أَضحية العيد ل'' زوز ملايين'' هذه السنة ؟    زيارة ماسك تُعزز آمال طرح سيارات تسلا ذاتية القيادة في الصين    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    تونس / السعودية: توقيع اتفاقية اطارية جديدة مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة    عاجل/ تفكيك شبكة مُختصة في الإتجار بالبشر واصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن في حق أعضائها    خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    حزب الله يرد على القصف الإسرائيلي ويطلق 35 صاروخا تجاه المستوطنات..#خبر_عاجل    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    كاتب فلسطيني أسير يفوز بجائزة 'بوكر'    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا لم تخل عشريّة واحدة من الحكم البورقيبي من المحاكمات السياسيّة ؟
مؤلف كتاب «بورقيبة والإعلام» الباحث والصحفي خالد الحداد في حديث خاص للشعب(الجزء الثاني): ناجي الخشناوي
نشر في الشعب يوم 05 - 07 - 2008

ننشر فيما يلي الجزء الثاني والأخير من الحوار المطول الذي أنجزناه مع الزميل الصحفي والباحث خالد الحداد حول متن كتابه «بورقيبة والإعلام» و يعتبر كتاب «بورقيبة والإعلام: جدلية السلطة والدعاية» للزميل الصحفي والباحث خالد الحداد وثيقة مهمة للوقوف على الجوانب الخفية في تمثلات وكيفية ممارسة الرئيس الأسبق للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة للإعلام والاتصال.
فبحث خالد الحداد الذي نال به شهادة الماجستير في علوم الإعلام والاتصال نهض متنه على تدرج منهجي وعلى كم هائل من المعلومات والحقائق والوثائق المبوبة ضمن زاوية بحث الرجل المتمثلة في السياسة الإعلامية للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وخطته الاتصالية التي انتهجها قبل وبعد نيل الاستقلال التام وقد رفد خالد الحداد بحثه بجداول إحصائية وشهادات قيمة لوزراء وكتاب دولة وعاملين في الميدان الإعلامي من الذين عايشوا الفترة البورقيبية، وفيه أيضا انتقى الباحث اضمامة مرجعية لخطب ألقاها الرئيس الحبيب بورقيبة تناولت مسألة الإعلام والاتصال، إلى جانب نماذج من المقالات الصحفية التي نشرها الرئيس بورقيبة.
كيف تقيم المفارقة بين بورقيبة الذي نمط الحياة الإعلامية وبورقيبة الذي أصدر مجلة الأحوال الشخصية وانتصر لخيارات العلمانية واللائكية ؟
بورقيبة زعيم وطني حقّق الكثير لبلاده، لكن ربّما من الأخطاء الّتي وقع فيها أنّه لم يكن ديمقراطيّا، وما يبرّر في نظري تلك المفارقة أنّ الرجل كان مسكونا بهاجس بناء الدولة ووحدة الأمّة أكثر من اللزوم، وكان يرى أنّ في ضعف الدولة مهانة كبيرة قد تفتح الباب لعودة المستعمر، لذلك كان بورقيبة دمويّا في وقف كلّ التهديدات الّتي قد تمسّ كيان الدولة وكان لا يتوانى في الاعتقالات والملاحقات وحتّى الإعدامات لخصومه ومنازعيه قيادة الدولة وتوجيه الشعب ، ومن المفارقات هنا أنّ بورقيبة استعان بالمخابرات الفرنسيّة لتصفية خصومه اليوسفيّين كما أشار إلى ذلك الكاتب عمّار السوفي في مؤلّفه «عواصف الاستقلال»، وكان يخشي من اليسارييّن لرؤيتهم الثوريّة والجماهيريّة خاصّة في أعقاب ثورة شباب فرنسا في ماي1968 ، بورقيبة كان يرى الشعب شعبه هو والجماهير جماهيره هو، هذا الشعب وهذا الجمهور الّذين كانا في نظره مجرّد قبضة غبار جاءهما هو ليصنع منهما أمّة واحدة وموحّدة، لذلك يجب أن لا يتواجد في هذا الشعب وبين هذا الجمهور أيّ مخالف أو مُشاغب كما لا يجب أن يتواجد بين النخب والمثقفين من يكون قادرا على التعبئة وكسب أو توجيه هذا الجمهور إلى وجهات أخرى، أليس من بين المؤرّخين اليوم من يشكّك في حقيقة «مؤامرة1962 « ويعتقد في أنّها كانت رواية مختلقة لتصفية عدد من الخصوم في مخافر الظلام ( صبّاط ظلام)، ولاحقا وهذا الغريب أيضا لم يستثن الحكم البورقيبي أيّ طيف سياسي أو نقابي من القمع والملاحقة والإقصاء والتهميش والتشهير بل لم يستثن حتّى بعض رموز دولته من أعضاء الحكومة والمسؤولين السياسيّين كلّما حادوا عن البوصلة البورقيبيّة.
صحيح أنّ بورقيبة حقّق مكاسب كبيرة في مجالات اجتماعيّة وتنمويّة عديدة على غرار الصحّة والتعليم والثقافة وانتصاره المبكّر لمبادئ التنوير وتحرير المرأة والتنظيم العائلي والحّد من النسل، ولكن يحقّ لنا اليوم أن نتساءل من موقع البحث والتقصي والدراسة : هل كان بورقيبة محقّا في كلّ ما اختاره من اختيارات وهل خضعت تلك الاختيارات إلى حاجات الواقع وجسّدت تطلّعات مختلف شرائح وفئات المجتمع ؟، واليوم وبقدر ما نعتبر مجلّة الأحوال الشخصيّة الّتي اشترك في انجازها في صيغتها الأولى مجموعة من المشائخ والقانونيّين تجسيدا واضحا لقدرة الخبرة التونسيّة في المزاوجة بين مقاصد الدّين ومتطلّبات الحداثة فإنّنا نتساءل عن الطريقة الّتي وقع بها تنزيل هذه المجلّة فهل كانت إفرازا لحراك ثقافي بين النخب وحراك اجتماعي داخل المجتمع أم كانت نتاج قرار سياسي فردي لزعيم فذ آمن برسالة الدولة في اللحاق بركب الحضارة والتحديث وان كان قسريا ولا يٌعبّر عن حاجات الواقع الموضوعيّة والتطوّر التاريخي التدريجي للمجتمع.
ثمّ أنا أقول حتّى العلمانيّة واللائكيّة الّتي انتصر لها الخطاب السياسي البورقيبي يُمكن أن تكون موضع تساؤل، هل كان بورقيبة لائكيّا وعلمانيّا فعلا وبصفة مطلقة ، لماذا حارب بورقيبة النخب الوطنيّة الليبراليّة على الرغم من إيديولوجياتها العلمانيّة واللائكيّة؟ لماذا لم ينفّذ بورقيبة سياسة الديمقراطيّة في الحكم الّتي نادى بها فلاسفة التنوير؟ أين «العقد الاجتماعي» في الحكم البورقيبي؟ أين التداول على الحكم؟ أين التواصل مع الآخرين المخالفين ؟ أين مؤسّسات المجتمع المدني والسياسي ؟ ألم يبتعد بورقيبة بسياساته في الحكم عن مبادئ التنوير والحداثة ؟ ، لماذا لم يُوازي بورقيبة بين سياسة التحديث الّتي انتهجها على مستوى مؤسّسة الأسرة تحديثا على مستوى مؤسّسة الدولة ؟
أثبت أن الإعلام البورقيبي اختلف من تمثل الرجل إلى ممارسته له خاصة إبان الأزمات والمحطات المصيرية مثل أزمة 26 جانفي 78 وأحداث 80 في قفصة وأحداث الخبز في 84 فما هي أهم ملامح هذا الاختلاف ؟
سياسة بورقيبة في التعاطي مع مثل هذه الأزمات والمحطات المصيرية كانت قائمة على آليتين فالإضافة إلى القبضة الأمنيّة كان يعمد إلى سياسة كبش الفداء مثل عزل أو تجميد بعض الوزراء والمسؤولين وفي جانب التنفيس وامتصاص التوتّر من خلال فتح هامش لحريّة الإعلام ممّا يطرح السؤال التالي: كم كان يجب أن يكون حجم الأزمة المجتمعيّة حتّى ينفتح هامش الإعلام بشكل واسع وتتغيّر سياسة الدولة الإعلاميّة بشكل جذريّ ؟ وهذا يستتبع سؤالا آخر: ماذا لو لم تعرف البلاد هزّات اجتماعيّة هل كان يُمكن للإعلام في تونس أن يشهد تلك الجرعات المحدودة من هامش التعبير والمبادرات المحدودة في تحرير الإعلام. وهذا لا ينفي وجود عوامل أخرى ساعدت على انفتاح الإعلام كنت أشرت إليها في إجابة سابقة ومنها أساسا دور نضالات المهنيّين والسياسيّين والنقابيّين في فرض هوامش الحريّة الإعلاميّة في العهد البورقيبي.
وهنا أودّ أن أذكّر بما توصّلت إليه في البحث من دور مركزي وهام للحركة النقابيّة في تعزيز ذلك الانفتاح، من ذلك أنّ جريدة «الشعب» ساهمت في إحداث ما يُشبه الرجّة عندما شقّت عصا الطاعة والموالاة فاتحة الأبواب أمام تعدّد الأصوات في الصحافة التونسيّة وذلك في أعقاب خروج الاتحاد العام التونسي للشغل وتحديدا قيادته عن حزام السلطة والخط العام للحزب الاشتراكي الدستوري، وفي هذا الصّدد أبرزت دراسة قامت بها وزارة الإعلام سنة 1983 وتطرّق لمضامينها الزميل عبد العزيز برّوحي، أنّه كلّما ازدادت المركزيّة النقابيّة ابتعادا عن هيمنة ومراقبة الحزب الاشتراكي الدستوري كلّما تدعّم الخطّ الإعلامي لصحيفة «الشعب» وارتفع سحبها، من ذلك أنّ هذا السحب ارتفع خلال الأزمة مع السلطة سنتي 1977/ 1978 إلى ما بين 60 إلى 80 ألف نسخة للعدد وهو الّذي كان لا يتجاوز العشرة آلاف زمن التوافق والانسجام مع الحزب الحاكم والدولة.
كما ساهمت الحركة العمّاليّة والنقابيّة مدعومة بأطياف الحركة الطلابيّة في فترة الصدام والتوتّر مع السلطة في ظهور عدّة نشريات سريّة مثل «الشعب السريّة» لسان الحزب الثوري للشعب التونسي و»الجبهة الوطنيّة لتحرير تونس»، إلى جانب جريدة «العامل التونسي» الّتي كانت تطبع في أوربا وتوزّع على نطاق واسع في تونس بصفة سريّة، كما أنّ جريدة «الشعب» التابعة للإتحاد العام التونسي للشغل كانت تظهر أحيانا بصفة سريّة هي الأخرى.
إنّ هذا المدّ النقابي والثوري دفع ونشّط المجال الإعلامي من خلال النشريات السريّة المعارضة وتنامي ظاهرة نسخ المنشورات وتوزيعها بصفة سريّة وبعيدا عن أعين الرقابة، حتّى أنّ المنع الّذي كانت تجابه به بعض العناوين الأجنبيّة من قبل السلطة ظلّ غير ذي قيمة أمام توفّر آلات النسخ الّتي مكّنت من توزيع المقالات الممنوعة على أوسع نطاق، إلى جانب انتشار طرق أخرى من أبرزها التسجيلات الصوتيّة وإيصال المعلومة من شخص إلى شخص.
هل يمكن إرجاع تخلف المنظومة الإعلامية زمن بورقيبة إلى استمرارية شعار توجيه الشعب الذي رفعه بورقيبة أثناء معركة التحرير ثم شعار توجيه وسائل الإعلام أثناء توليه الرئاسة ؟
زمن الاستعمار استدعى بورقيبة الإعلام وأساسا الصحافة المكتوبة والإذاعة للتشهير بالمستعمر وسياساته العدوانيّة داخليّا وخارجيّا وكان يجعل من هذا الإعلام موقعا للجدل والمناظرة وبيان تهافت أطروحة هذا المستعمر ،كتب بورقيبة العديد من المقالات ردّا عن مقالات أخرى وانتقد آراء متعدّدة ، كانت هناك إثارة سياسيّة وجدل متباين حتّى بينه وبعض النخب والسياسيّين التونسيّين آنذاك، لكن بعد إحكام السيطرة على دواليب الحكم كان هناك توجيه لأدوار هذه الوسائل الإعلاميّة وتمّ التعسّف عليها حتّى لا تخرج عن عقال السلطة وفعل بورقيبة ما في وسعه وبما له من حنكة ودراية بآليات وأساليب العمل الصحفي والإعلامي إلى تطويع الإعلام لخدمة البرامج الّتي آمن بها وإلى الدعاية لها حتّى وإن أثبتت الممارسة والتجربة تهاويها، من ذلك مثلا أنّ الصحافة التونسيّة خلال الستينات وتحديدا في فترة تجربة التعاضد نقلت تحريفات عديدة عمّا يجري في الواقع وقد أقرّ أحد وزراء بورقيبة بذلك ،ثمّ إنّ نفس الإعلام الّذي هلّل للوزير أحمد بن صالح هو نفسه الّذي كال له الاتهامات والانتقادات ، الإعلام حسب رأيي انحاز إلى طرف وحيد هو الدولة وانخرط في مسارات خاطئة بل ومدمّرة كتشويه الواقع وتزييف الحقائق والمعطيات.
كان بورقيبة كما يبدو لي يؤمن بالتصوّر الهيجلي للدولة باعتبارها روح اللّه الّتي حلّت في التاريخ ، فهي المسؤولة عن الرعاية والحماية والتوجيه والتوعية والتثقيف لا يُنازعها في هذا الدور الرسالي أحد إلاّ عدّ مارقا عن الملّة وخارقا لإجماع الأمة، لذلك لم تكن المسألة بالنسبة لبورقيبة حسب تقديري مجرّد شهوة للتسلّط والطغيان ونزوع سادي بل كانت أبعد من ذلك إذ تقمّص الرئيس دور الدولة في شخصه فكان هو المركز والمحور وانعكس ذلك على الوظيفة الإعلاميّة الّتي كان دورها الأساسي التعريف بالزعيم وبنضالاته وانجازاته وتصوّراته ومعتقداته وسيرته انطلاقا من أنّ سيرته هي سيرة الوطن وذاكرته الجماعيّة ، وتأثّر الإعلام كثيرا بتلك الرؤية إلى حدّ أنّ بورقيبة كان هو الطرف الوحيد الماسك بجميع أطراف العمليّة الإعلاميّة فهو «الباثُ» وهو « مضمون الرسالة الإعلاميّة» وهو في نهاية المطاف من شكّل «المتلقي» لتلك الرسالة، شعب خارج من أتون التخلّف والجهل والتبعيّة والاستعمار ينشُد التوجيه والتثقيف والرعاية الصحيّة والاجتماعيّة وتوفير لقمة العيش، شعب غير مؤهّل لحياة سياسيّة فيها الرأي والرأي المخالف، شعب منقوص يحتاج دائما إلى التوجيه وضعيف مجبر على الانقياد إلى رغبات محكوميه، بورقيبة علّمنا كيف نعيش في مجتمع حداثي وذلك عندما أعاد بناء مؤسّسة الأسرة وفق قيم حديثة وحارب العروشيّة والجهويّة ونظم الأحوال الشخصيّة ولكنّه في المقابل حافظ على النمط التقليدي للدولة الّذي يتنازعه النموذج الستاليني في مركزيّة الدولة وحزبها وإعلامها البرافدي والنموذج السلطاني الشرقي القائم على فكرة الرعيّة لا المواطنة، وتلك في نظري أهم ثغرات النظام البورقيبي إذ لم يحوّل بورقيبة التونسيّين من رعايا إلى مواطنين بأتمّ معنى الكلمة كما ذهب إلى استخلاص ذلك الدكتور الهادي التيمومي في كتابه الأخير (تونس1987 1956 - ).
ولكن ما يحسب للرجل أن التلفزة مثلا سايرت الفكر العلماني والتنويري وابتعدت عن سياسة الوعظ والإرشاد بغض النظر عن الهدف السياسي آنذاك؟
يُمكننا حسب تحليل خطابات بورقيبة أن نتحدّث عن تصوّر بورقيبي خاص للعلمانيّة ولللائكيّة ناهيك وأنّ بورقيبة انتقد علمانيّة أتاتورك في خطاب شهير أمام البرلمان التركي سنة 1965 كاد يتسبّب في قطع العلاقات بين تونس وتركيا، هذا ما يُفسّر التداخل بين السلطات وبين الدولة وشخص الرئيس وبين المجتمع المدني والمجتمع السياسي وتسخير الإعلام لرسالة الدولة الراعية لا دولة المواطنة.»علمانيّة بورقيبة» بحسب رأيي استمدّت مرجعيّتها من الموقف الإيديولوجي للسلطة وكانت نابعة من قرار سياسي ولم تسع لأن تكون تعبيرة عن وعي ثقافي وفكري واسع ومجسّدة لتطوّر مجتمعي طبيعي ولذلك لم توفّر هذه العلمانيّة لنفسها سندا متينا وقويّا وعرفت تراجعات خطيرة شيئا فشيئا مع وهن وضعف مؤّسسها. لذلك فإنّ الحديث عن مسايرة التلفزة للفكر العلماني والتنويري أمر فيه نظر، ما الّذي يُمكن أن يعنيه التنوير كما كتب عنه «كانت» إذا لم يكن معبّرا عن ثقافة الغيريّة والتنوّع والتعايش بين المختلفين والحقّ في التعبير والنقد والجدل ؟ فأين موقع الآخر في التلفزة التونسيّة إبّان الحكم البورقيبي؟ وأين ثقافة التعايش والرأي الآخر؟ هل كان جميع التونسيّين متجانسين في الأفكار والتصوّرات والمعتقدات ؟ ثمّ ألم تكن الفقرات اليوميّة لتوجيهات الرئيس والعكاظيات الشعريّة والمدائح الوطنيّة الصباحيّة اليوميّة شكلا من أشكال تكريس ثقافة الوعظ والإرشاد ونمط الدولة السلطاني الّذي نظّر له الماوردي في «الأحكام السلطانيّة» ، لقد كانت صورة البلاد تمرّ عبر المنظار الرسمي الّذي يُسفّه ويُشيطن Diaboliser كلّ صورة مخالفة لما تريد أن تكرّسه مؤّسسات الإعلام الرسميّة،يكفي أن نُذكّر أنّ جميع الاحتفالات الخاصّة والعامّة في تونس كانت تُختتم بذلك النشيد الّذي تُختتم به التلفزة الوطنيّة كلّ ليلة « يا سيّد الأسياد» بل إنّ النشيد الوطني القديم كان تخليدا لنضالات وروح الزعيم « ألا خلّدي يا دمانا الغوالي ...» كما إنّ بورقيبة كان يتدخّل بصفة مباشرة وشخصيّة متى عنّ له ذلك لإملاء توصيات ومحاذير ليس للمسؤولين فقط بل كذلك للعاملين والعاملات في الإذاعة والتلفزة خاصّة في قسم الأخبار حتّى أنّ أرشيف هذه المؤسّسة يحتفظ إلى اليوم بما يُعرف لدى أهل هذه المؤسّسة ب:»دفتر تعليمات بورقيبة وتوصياته « فأيّ علاقة يا تُرى بين هذا التمثّل وقيم التنوير والحداثة؟.
بورقيبة كان يقول عن هذه التلفزة « إنّها تلفزتي» مثلما يقول أنّ هذه الدولة دولتي وهذا الشعب شعبي وتونس كلّها بيتي ومزرعتي ، ومن الغريب هنا فعلا أنّ خطاب افتتاح التلفزة التونسيّة عرّى هذه الخلفيّة بشكل يقينيّ، فبعث التلفزة كان كما عبّر هو بنفسه نتيجة لتقدّمه في السنّ إذ لم يعد قادرا على تحقيق التواصل المباشر مع الجماهير لذلك جاءت التلفزة في برنامجه أساسا لتكون أداة ووسيلة لاستمراريّة ذلك التواصل مع الجمهور ومع الشعب ليصل صوته إلى مخادع التونسيّين وغرف نومهم ، يقول بورقيبة في الخطاب المذكور:»ومن يوم أن أصبحت الدولة تحت مسؤوليتي وتحملت أعباء أمانتها الكبرى صار من الصعب عليّ أن أتصل مباشرة بكل الأفراد (...)، التلفزة أتاحت الفرصة لجميع المواطنين كي يستمعوا إليّ ويروني في وقت واحد وكأنما أنا في بيوتهم أتدارس معهم شؤونهم ومشاكلهم وأتحقق أنهم مازالوا في حاجة إلى مواصلة الحوار والإنصات إلى كلامي الذي تعودوا به وعرفوا أسلوبه ولهجته وبواسطة أجهزة التلفزة سوف لا يتعبون في المستقبل إن شاء الله ولا يتجشّمون مشقة الوقوف تحت لهب الشمس في الاجتماعات، بل سيجدونني عوضا عن ذلك بينهم في بيوتهم بقاعة الاستقبال أو الطعام أو في غرفة النوم «.
التلفزة أو لنقل الإعلام بصفة عامّة احتلّ موقعا هامشيّا في التجربة البورقيبيّة بالمقارنة مع مجالات مركزيّة أخرى على غرار اللحاق بركب الحضارة والتنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة ، أي أنّه كان أي الإعلام عنصرا من بين عناصر أخرى استغلّتها الدولة لتثبيت أركانها وفرض هيمنتها.
بخصوص الشهادات التي قدمتها ضمن مؤلفك وخاصة شهادات الوزراء وكتاب الدولة إلى أي مدى يمكن صبغها بصبغة الموضوعية؟
الشهادات جاءت عبر أسئلة محدّدة زمنيّا ومضمونيّا وتمّ أخذها حسب منهجيّة مدروسة ، وهي غطّت كامل الفترة البورقيبيّة سواء بالنسبة للوزراء وكتّاب الدولة أو الصحافيّين والإعلاميّين ، كما أنّ العيّنة من العاملين في الحقل الإعلامي توزّعت إلى جانب توزّعها التاريخي على مختلف تصنيفات الإعلام الّذي كام موجودا أو الّذي بإمكانه أن يكون موجودا في أيّ تجربة ، إعلام معارض (عبد الحميد بن مصطفى ، الحزب الشيوعي التونسي) ، عبد اللطيف الفوراتي ( صحافة مستقلّة) بلحسن بن عرفة ( إعلام رسمي ، وكالة تونس إفريقيا للأنباء ومؤسّسة الإذاعة والتلفزة التونسيّة) ، وحيد براهم ( إعلام قريب من الحزب الحاكم والسلطة السياسيّة ، جريدة «بلادي») ، صلاح الدين الجورشي (صحافة رأي) ، هذه الشهادات قدّمت معطيات هامّة منها التاريخي ومنها التوثيقي ومنها المتعلّق بنفسيّة ومواقف بورقيبة ، وبحسب رأيي فإنّ هذه الشهادات تبقى في حاجة إلى مزيد الدراسة والتمحيص والمقارنة بهدف الوصول إلى فهم أشمل وأدق للكيفيّة الّتي كان يُدار بها الإعلام في العهد البورقيبي. غير أنّ أبرز الأشياء الّتي قدّمتها لي هذه الشهادات أنّ مواقف من أجريت معهم الأحاديث كانت متباينة إلى درجات كبيرة ، تحديدا بحسب الموقع الّذي كان يحتلّه صاحب كلّ شهادة وبحسب طبيعة الدور الّذي كان يؤدّيه في العمليّة الإعلاميّة ، كما أنّ العيّنة الّتي اخترتها تبقى عاجزة عن الإلمام بمسألة تغمر الحياة والمجتمع وتشغل السلطة بصفة يوميّة وبالرغم من ذلك أحدثت الشهادات المنقولة في الكتاب جدلا واسعا واختلافا وتباينا في العديد من الأوساط ناهيك وأنّ لفظة واحدة في شهادة الصحفي عبد اللطيف الفوراتي فتحت بابا للاختلاف في قراءة حادثة تاريخيّة مرتبطة بمسيرة جريدة « الصباح» هذه المدرسة الصحفيّة العريقة التّي نكنّ لها جميعا كلّ الاحترام.
وبحسب نظري فإنّ الجزء من الكتاب الّذي اشتمل على تلك الأحاديث هي من أهمّ أجزائه لأنّها تدفع إلى انتظارات أخرى من فاعلين آخرين ، وشخصيّا ومنذ صدور الكتاب تلقيّت العديد من التفاعلات الّتي ربّما تُتاح لي فرصة أخرى للتأليف حولها.
لنعد الي مقولة نابليون بونبارت هل تعتقد فعلا أن تحرير الاعلام يؤدّي بالضرورة الى سقوط الحكومات؟
لو كانت سياسة الإعلام الرسميّة أقلّ انغلاقا لكانت صورة الحكم في تونس أقلّ قتامة ولتمكّن بورقيبة من تعديل الكثير من القرارات والسياسات ولتجنّبت البلاد الكثير من الهزّات السياسيّة والمنعطفات الخطيرة، إنّ ما ذكره نابليون بونبارت لا يعني بالضرورة أنّ تحرير الإعلام يؤدّي بالضرورة إلى سقوط الحكومات ولكنّه يعني أنّ الحكومات الّتي تصمّ آذانها عن انتقادات إعلامها الحرّ الّذي يُعبّر عن ضمير شعبه وآلامه وتطلّعاته وطموحاته وأشواقه هي حكومة زائلة لا محالة، أمّا انفتاح السلطة الحاكمة على الإعلام المستقل وكلّ الفاعلين داخل المجتمع واسترشادها بآرائهم فإنّ ذلك من شأنه أن يُطوّر تجربة الحكم ويُساهم في تطوير الممارسة السياسيّة وإصلاحها والارتقاء بها إلى تطلّعات المجتمع ونخبه.
إنّ خوف بورقيبة من الإعلام كان يُعبّر عن تمسّك بنهج سياسي في الحكم يعكس الخلاصة التالية الّتي انتهينا إليها:لقد كان بورقيبة أحاديّا في تمثّله الإعلام بنفس القدر الّذي كان فيه أحاديّا في سلوكه السياسي، لقد تضرّرت الحياة السياسيّة في تونس والدولة البورقيبيّة نفسها بسبب سياسة الانغلاق الإعلامي الّتي مورست في تلك الحقبة، ذلك أنّ جهدُ الإعلام كان منصبّا على إيجاد الآليات المساعدة والضامنة للتأثير في العقليات وتوجيه الشعب الوجهة الّتي يريدها رجل السياسة، وممّا يؤكّد ذلك أنّ وظيفة الإخبار كانت هامشيّة في عمل مختلف الأجهزة الإعلاميّة وخاصة منها الإذاعة والتلفزة وكثيرا ما كانت الأخبار والتعاليق والتحاليل الإخباريّة محكومة إلى عمليات انتقاء وتوجيه يسهر على تنفيذها النظام السياسي البورقيبي بنفسه وبشكل مباشر وبحسب ما تقتضيه المصلحة الآنيّة والظرفيّة المحليّة والإقليميّة والدوليّة، كما أنّ المساحات الإخباريّة كانت مُخصّصة لتغطية أنشطة وأعمال القائمين على أجهزة الدولة دون سواهم من المخالفين والمعارضين.
لماذا لم تفرد فصلا في كتابك للمقارنة بين الإعلام البورقيبي والإعلام ما بعد الزمن البورقيبي؟
كما قلت الكتاب هو حصيلة بحث جامعي أكاديمي واقتضت منهجيّة البحث حصر الفترة الزمنيّة حتّى تتمّ الدراسة بشكل علمي ومنهجي ، وبحسب رأيي فإنّ التحديد الزمني أساسيّ لأنّه يسعى إلى تحليل فترة متجانسة مرتبطة بمركزيّة حضور الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة سواء من حيث قيادته للحركة الوطنيّة أو رئاسة الدولة التونسيّة ، بعد بورقيبة الإعلام بحسب رأيي دخل مرحلة أخرى مُغايرة من حيث الإطار السياسي وفلسفة الحكم ، مرحلة حملت شعار التغيير والإصلاح السياسي وبشّرت في أولى بياناتها بأحقيّة الشعب التونسي بحياة سياسيّة تعدّديّة وديمقراطيّة ، والإعلام ما بعد الزمن البورقيبي له خصائصه وله ميزاته و يحتاج هو الأخر إلى البحث والدراسة والتحليل وبعدها يُمكن إجراء دراسة مقارنة بين الإعلام البورقيبي والإعلام ما بعد الزمن البورقيبي واستخلاص النتائج والعبر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.