عاجل/ هذا ما قرره القضاء في حق سنية الدهماني..    فيديو - سفير البرازيل :'' قضيت شهر العسل مع زوجتي في تونس و هي وجهة سياحية مثالية ''    كيف نختار الماء المعدني المناسب؟ خبيرة تونسية تكشف التفاصيل    منذ بداية السنة: تسجيل 187 حالة تسمّم غذائي جماعي في تونس    الكاف: فتح مركزين فرعيين بساقية سيدي يوسف وقلعة سنان لتجميع صابة الحبوب    عاجل/ آخر أخبار قافلة الصمود..وهذه المستجدات..    معرض باريس الجوي.. إغلاق مفاجئ للجناح الإسرائيلي وتغطيته بستار أسود    دورة المنستير للتنس: معز الشرقي يفوز على عزيز دوقاز ويحر اللقب    من هو الهولندي داني ماكيلي حكم مباراة الترجي وفلامينغو في كأس العالم للأندية؟    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    243 ألف وحدة دم أُنقذت بها الأرواح... وتونس مازالت بحاجة إلى المزيد!    كهل يحول وجهة طفلة 13 سنة ويغتصبها..وهذه التفاصيل..    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    الحماية المدنية: 536 تدخلا منها 189 لإطفاء حرائق خلال ال 24 ساعة الماضية    ضربة "استثنائية".. ما الذي استهدفته إيران في حيفا؟ (فيديو)    رفض الإفراج عن رئيس نقابة قوات الأمن الداخلي وتأجيل محاكمته إلى جويلية المقبل    صاروخ إيراني يصيب مبنى السفارة الأمريكية في تل أبيب..    الإتحاد المنستيري: الإدارة تزف بشرى سارة للجماهير    وفد من وزارة التربية العُمانية في تونس لانتداب مدرسين ومشرفين    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    كأس العالم للأندية: برنامج مواجهات اليوم الإثنين 16 جوان    اليوم الإثنين موعد انطلاق الحملة الانتخابية الخاصة بالانتخابات التشريعية الجزئية بدائرة بنزرت الشمالية    كأس المغرب 2023-2024: معين الشعباني يقود نهضة بركان الى الدور نصف النهائي    تصنيف لاعبات التنس المحترفات : انس جابر تتراجع الى المركز 61 عالميا    باريس سان جيرمان يقسو على أتليتيكو مدريد برباعية في كأس العالم للأندية    النادي الصفاقسي: الهيئة التسييرية تواصل المشوار .. والإدارة تعول على الجماهير    طقس اليوم..الحرارة تصل الى 42..    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    قتلى وجرحى بعد هجمات صاروخية إيرانية ضربت تل أبيب وحيفا..#خبر_عاجل    الاحتلال يستهدف مقرا للحرس الثوري في طهران    باكستان تتعهد بالوقوف خلف مع إيران وتدعو إلى وحدة المسلمين ضد "إسرائيل"    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    النفط يرتفع مع تصاعد المواجهة في الشرق الأوسط.. ومخاوف من إغلاق مضيق هرمز    بعد ترميمه فيلم "كاميرا عربية" لفريد بوغدير يُعرض عالميا لأوّل مرّة في مهرجان "السينما المستعادة" ببولونيا    بوادر مشجعة وسياح قادمون من وجهات جديدة .. تونس تراهن على استقبال 11 مليون سائح    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    اليوم انطلاق مناظرة «السيزيام»    إطلاق خارطة السياسات العمومية للكتاب في العالم العربي يوم 24 جوان 2025 في تونس بمشاركة 30 دار نشر    تونس: حوالي 25 ألف جمعية 20 بالمائة منها تنشط في المجال الثقافي والفني    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    فيلم "عصفور جنة" يشارك ضمن تظاهرة "شاشات إيطالية" من 17 إلى 22 جوان بالمرسى    زفاف الحلم: إطلالات شيرين بيوتي تخطف الأنظار وتثير الجدل    المبادلات التجارية بين تونس والجزائر لا تزال دون المأموال (دراسة)    الإعلامية ريهام بن علية عبر ستوري على إنستغرام:''خوفي من الموت موش على خاطري على خاطر ولدي''    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    إطلاق خط جوي مباشر جديد بين مولدافيا وتونس    باجة: سفرة تجارية ثانية تربط تونس بباجة بداية من الاثنين القادم    هل يمكن أكل المثلجات والملونات الصناعية يوميًا؟    موسم واعد في الشمال الغربي: مؤشرات إيجابية ونمو ملحوظ في عدد الزوار    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    المدير العام لمنظمة الصحة العالمية يؤكد دعم المنظمة لمقاربة الصحة الواحدة    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    خطبة الجمعة .. رأس الحكمة مخافة الله    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوعي الانساني بين الحقيقة والوهم
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

كان الفكر الفلسفي منصبا على موضوعات ماورائية بعيدة عن فكرة الانسان فكانت أهم المفاهيم السائدة تتمثل في الروح المطلق أي المثل ولكن سرعان ما أخذ التفكير الفلسفي مساره نحو دراسة الطبيعة بما تحويه من حقائق أولية وكانت أهم المرتكزات المفاهمية لهذا الموقف تتجسد في المادة أي الحركة ومن ثمة نلاحظ أن هناك تناقضا بين الموقفين. الأول يتجه الى أعلى والآخر يتجه الى عالم المادة، لكن مع ظهور عصر النهضة اتجه التفكير الفلسفي الى البحث عن الحقيقة في الانسان نفسه بما هو مادة وفكر فكان ديكارت هو الفليسوف النموذجي لهذا العصر اذ قام بتأسيس مفهوم العي لا في مفهومه الأخلاقي بل تلك العودة التأملية الى الذات والتي بواسطتها نفكر فالتفكير في الانسان وفي أبعاده أدى الى التفكير في الوعي باعتباره بعدا من أبعاد الانسان فمشكلة الوعي متمحورة أساسا حول اشكالية الذات الانسانية وكيفية تميزها عن بقية الذوات الأخرى.
ديكارت : أنا أفكر إذن أنا موجود
إن الوعي عند ديكارت لا يقوم على مبدإ الأشياء بقدر ما يقوم على اثبات وجودنا المفكر فماهية وجود الانسان هي التفكير أفلم يكن الشك عند ديكارت منصبّا على اثبات حقيقة هذا الجوهر البسيط المتمثل في النفس بما هي أنا ووعي إذ أن كل ماهية أو طبيعة لا تقوم إلا على الفكر وهو أمر لا يحتاج في وجوده إلى شيء آخر.
لقد عمل ديكارت على اثبات أهمية الفكر في تأسيس الوعي بالوجود إذ لا نقيس قيمة الانسان بما لديه من مادة وإنمانقيسه وفق حقائق الفكر والعقل ومن هنا كانت دعوة ديكارت الى وجوب استعمال العقل بما يعنيه من قدرة على الاستدلال وعلى استخلاص نتائج صادقة.
«تنطلق فلسفة ديكارت العقلانية من الأكثر بساطة الى الأكثر تعقيدا، مركّزا على دور الحدس، وهو حسّ ذهن نقي ويقظ يسمح بالتقاط الفكرة في حالة نقائها وفي كل مرحلة يجب التأكد والضبط بحيث لا نترك شيئا يفلت من يقظة الفكر وهكذا نصبح قادرين على الخلوص باستنتاج فلسفي».
تتضح لنا من خلال هذا التدرّج المنطقي للوصول الى الحقيقة رغبة ديكارت في تطبيق منهج رياضي لإثبات صحة الأفكار الفلسفية باللجوء الى الاداة الوحيدة القادرة على استنباط الحقائق ألا وهي العقل الواعي إذ من الخطإ حسب اعتقاده الوثوق بحواسنا كما قال أفلاطون.
ولعل فضل ديكارت على الفلسفة هو اكتشافه لحقيقة جديدة متمثلة في الكوجيطو «أنا أفكر إذن أنا موجود».
أو إن شئنا أنا أشك إذن أنا واع بوجودي. فديكارت يرى أنه من الممكن الشك في كل شيء لنكون على ثقة من صلابة الأسس الفكرية التي تنطلق منها فهو يريد أن يبدأ من الصفر لهذا كان الشك أساسيا بالنسبة له إذ يمثل قناعته الثابتة الوحيدة فهو «إذ يشكّ يتأكد من أنه يفكر وإذ يفكر يتأكد من أنه كائن مفكّر» يعي وجوده.
إن خصائص الوعي ليست من ذات الأشياء، ألم يقل ديكارت أن الوعي يتمتع باستقلالية وموضوعية خاصة وهو بمعزل عن الأشياء فهو مكلف بنفسه وداخل قلعة ذاته، ألم يقل أيضا أن العقل قد حاز نهائيا على مبادئه التي سماها بالأفكار الفطريّة.
إن كل كوجيطو ذاتي من حيث هو فعل ينطلق من ذات خاصة فالوعي يعمل على طريقة خاصة تصدر عن الذات الفردية التي تدرك هذا الشيء أو ذاك. إن الأشياء التي ندركها تبقى دائما أشياؤنا بحيث تتحول الى وعي خالص أي انتقال من الخارج الى الداخل وبصورة أخرى تنتقل من الداخل وبصورة أخرى تنتقل من الداخل الى الخارج فكل وعي ندركه يجب أن يكون حصيلة منهج عقلي وأسس مبنية على الإتزان والصلابة.
لقد سعى ديكارت الى إيجاد منهج دقيق وموثوق به قصد الوعي بالوجود وبالطبيعة فكان بذلك رائد ومؤسس منهاج التفكير الفلسفي اذ عمل على أن يكون الوعي بالذات وبالكون واكتشاف المعلوم والحقائق بواسطة أفكار واضحة ومتمايزة وجلية.
هيقل : الوعي بالذات يستوجب الوعي بالآخر
لئن قامت فلسفة ديكارت بإنشاء منهج فلسفي قادر على استنباط الحقائق واكتشاف المعرفة ومن ثمّة الوعي بالوجود فإن فلسفة هيقل مبنيّة على المنهجية الجدلية وهي طريق تأخذ بمبدإ صراع الأضداد الذي قال به هيروقليدس، فالكون عند هيقل قائم على الحركة والحركة مصدرها التناقض.
إن القول بالتناقض يؤدي الى حقيقة أولية تتمثل في الإيمان بأن جميع أشكال الوجود سواء كانت مادية أم روحية تتحرّك من الأدنى الى الأرقى وتتخذ أشكالا مختلفة عندما تمر بأطوار متعاقبة «فالزهرة لو كانت زهرة لبقيت زهرة الى الأبد».
يقول هيقل بالصيرورة ويطبّق هذه الرؤية الجدلية على مفهوم الوعي مبينا المسارات التي يقطعها وهي مسارات منعرجة لا خطيّة، تبقى مسألة الوعي وهي مرتبطة بمسألة البدء أي متى يكون الوعي وعيا حقيقيا؟
يعتقد هيقل أن الوعي في بدايته وعي فقير فهو في نفس الذات والموضوع إذ لم يشمل الآخر وهو ما يعني افتقاده الى الشمولية وبالتالي الموضوعية.
ومن هنا يتضح لهيقل أن كل وعي يظهر للآخر كما لو أنه موضوع فنظرتنا الأولى موسومة بالسلبية والآخرليس وعيا وإنما موضوعا وهو بدوره أي الآخر ينظر إليّ لا بوصفي وعيا وإنما باعتباري موضوعا.
فطبيعة الحياة تحتّم على الانسانية تبادل التأثير والتأثر ولا يمكن لأي كائن بشري أن يعلو فوق الصراع ومن داخل هذا الصراع ومن خلاله يتشكّل وعي الانسان كوعي بالذات وبالكون. فالوعي هو وعي بالحياة أولا ومن خلالها يدرك الإنسان ذاته بإدراكه للآخر، ألا يصبح الآخر مرآة ذاته وبالتالي يخرج من دائرة الذاتية الخالصة ليدخل في كل ما هو جماعي إذ أن الوعي لا يصير وعيا حقيقيا إلا في نطاق «حركة التجريد المطلق».
يتحول الوعي عند هيقل إلى وعيين، وهي بالذات ووعي بالآخر وهنا بالذات يركز جورج ويلهلم فريدريك هيقل على مقولة الصراع لتعاقب مراحل الوعي وتطوّره اذ لا يبدو الوعي ثابتا وغير متحرك حتى وإن بدا كذلك فهو لا يعني إلا لحظة زائلة يعقبها التطور فوعينا ضيّق يرى أن الزهرة زهرة والبرعم برعم وهو ما يعني أن الصراع يظلّ القانون المسيطر على الوجود المادي والروحي إذ لا مندوحة كما يقول هيقل أن تخوض كل الكائنات صراعا من أجل الحياة والموت، صراع تستعمل فيه كل الطرق والحيل لتحقيق الحرية «فالمغامرة بالحياة هي السبيل إلى الحفاظ على الحرية».
إن الوعي بالحرية وبالحقيقة ينتزعان انتزاعا ولذلك يعتبر هيقل عملية الصراع المجال الموضوعي لتكوّن الوعي وتطوره وبلوغه اليقين لذاته واليقين للآخر.
ماركس : الوعي نتاج اجتماعي
ماركس لا ينظر الى الانسان إلا من زاوية واقعية أي أن أشكال الوعي والنشاط البشري تنتج عن تغيّرات المجتمع من نمط انتاج معيّن إلى نمط انتاج جديد بمعنى أن الوعي لا يظهر إلا من خلال صراع القديم مع الجديد في المجتمع الواحد.
يركّز ماركس على الناحية الاجتماعية كمفتاح لتفسير الوعي من حيث هو ظاهرة مكتسبة بالممارسة، ممارسة أثناء علاقة الإنسان بالطبيعة وممارسة في أثناء العلاقات الاجتماعية، فالوعي الانساني في بدايته لم يكن مجرد ادراك حسّي ووعي بالصلة المحدودة بالأشخاص وبالأشياء الموجودة في العالم.
إن الممارسة هي التي تولّد الوعي إذ أن العمل الانساني هو الذي أخرج الإنسان من حيوانيته وحرّره من الطبيعة التي كانت تقف أمامه كقوة جبارة لا تقهر. فالوعي هو بالأساس وعي اجتماعي حتى وإن كان في مظهره وعيا فرديا.
يركّز ماركس تحليله لظاهرة الوعي بالاعتماد على مقولة الانتاج بوصفها الأساس الذي تنبثق عنه كل أشكال الوعي وتنمو وتتطور بتطوره فإذا «تغيّر نمط الإنتاج تغيّر الوعي».
وعلى هذا الأساس أي أساس علاقة الوعي بالإنتاج يفسر ماركس الوعي على أنه البداية التي مكنت الإنسان من التحرر من الحالة الحيوانية إذ يقول ماركس «لا يتميز الانسان على الخروف إلا بحضور الوعي لديه محل الغريزة أو بتحول غريزة لإلى غريزة واعية» فالوعي يمثل أرقى ما تصل اليه الحيوانات وأساسا الإنسان باعتباره «حيوانا ناطقا» على حد قول أرسطو وهو وكما جاء على لسان ابن خلدون «حيوان اجتماعي».
إن جدلية الإنسان والطبيعة وعلاقة الإنسان بالإنسان هي التي غيرت من الانسان ذاته ففصلته عن وعيه الأول الذي سماه ماركس وانقلز ب»الوعي القطيعي» أو «القبلي» وهذا الوعي نما بنمو الإنتاجية والحاجات البيولوجية وغيرها للإنسان وهو أثناء عملية الإنتاج يكتسب مهارات معرفية تجعله قادرا على السيطرة على الواقع وعلى نفسه.
لقد تطورت الإنتاجية ومنذ ذلك الحين «صار الوعي قادرا على التحرّر من العالم وعلى الإقدام على انشاء النظرية المحض وعلم الياهوت والفلسفة والأخلاق».
يبرهن، إذن، ماركس على أن الوعي الانساني لا ينمو ولا يتطور إلا بتطور الانتاجية، والقول بالإنتاج هو بالأساس قول بالعمل والمجاهدة الانسانية التي تجعل من الانسان كائنا واعيا قادرا على التأثير والتأثر. «فما التاريخ كله الا تاريخ صراع الطبقات ولا يفعل التاريخ إلا رسم خط هذا الصراع لامتلاك وسائل الانتاج» بامتلاكها يكتسب الانسان قيمته بما هو كائن واع وفاعل فعل «اليد» و»الفكر».
الوعي الإنساني بما هو وهم إذ «الحقائق أوهام نسينا أنها كذلك»
إن الفلسفة كمجال حيوي للاشكاليات المطروحة والأطروحات المؤشكلة قائمة أساسا على الوعي بمفهومه الابستمولوجي السائد المنتمي الى جملة المسلمات التي لم يسبق أن أخذت مأخذ الشك والذي ينبثق في أجلى تعبيراته عن كوجيطو ديكارت لكن ضمن الاستمرار التاريخي للتطور الفلسفي يصير هذا الوعي الذي تنبثق عنه كل المحتويات الفلسفية والعلمية والذي تنبثق عنه جميع المظاهر الحياتية المعقدة والمختلفة موضوع بحث بل ويتجاوز ذلك إلى أن يكون متهما في أغلب مراحل تطوره.
ولئن اختلف فلاسفة كثيرون حول قدرات الوعي الانساني على ادراك العالم و»انقسموا الى وثوقيين (يثقون في قدرات العقل على ادراك العالم) وإلى ريبيين (يشكون في امكانية ادراك العالم ادراكا يقينيا) الى مقيدين للمعرفة (أي يضعون للوعي حدودا تجعله لا يدرك إلا ظواهر الأشياء لا جواهرها)» فإن علماء النفس ساهموا في اثراء التراث الفلسفي في كيفية تحليله لظاهرة الوعي واللاوعي وكشفه عن متطلبات ابسيمولوجية كانت ترى في الوعي مسملة لا يمكن الطعن فيها.
نيتشه : الوعي باعتباره زيفا وقناعا
يقطع نيتشه في تحليله للعقل الواعي مع الرؤية السائدة التي تعتبره وسيلة المعرفة وأساس الفضيلة والحكمة إذ أن تطور الصراع بين البشر أفضى الى موقف جديد من العقل أي اعتباره مجرد وسيلة لتحقيق حاجيات بيولوجية وقد كان يستخدم من أجل المحفاظة على البقاء.
القوة بالنسبة لنيتشه هي التي تسمح له بأن يعي وجوده ويحافظ عليه إذ لا مكان للضعيف لأنه عاجز عن خوض معركة من أجل الوجود فالإنسان الضعيف على حد قوله ينتشه «يفتعل التملق الدائم طلبا لشيء من بريق الزهو الزائف».
«لقد حبس الانسان في أوهامه كما تحبس الحيوانات في الزريبة» ومن ثمة يسهل عليه تقبل الأوهام واستعمالها، ألم يكن الانسان ميالا الى الطاعة أكثر منه إلى الامتثال، ألم يكن يعتقد أنه يملك الحقيقة والحال أن «العين تنزلق على سطح الأشياء فلا ترى منها إلا الأشكال». لقد أغرقت الحضارة الإنسان وقادته الى سبيل جعله يعزف على ظاهر الأشياء فوعي العامي هو وعي متشبث بأوهامه ظنا منه أنه وجد الحقيقة وفي المقابل فإن الوعي الحقيقي كما أبرزه نيتشه هو الذي يخضع الى الحياة ويخدم قانونها الأساسي، الاستمرار.
إن هدف الوعي بما هو ثقافة وأخلاق يتمثل في الانتقام من تصرفات القوي وبالتالي من مجرى الحياة لأنها بلا مبرروكل هذا من شأنه أن يؤثر على آليات تفكير الانسان وأسلوب حياته ويحوله من انسان عفوي وتلقائي الى كائن عدائي وتاريخ الانسانية عند نيتشه ليس إلا تاريخ حرب دائمة بين القوي والضعيف، بين الصحيح والمريض، بين السيد والعبد.
لقد أصبح الوعي عند نيتشه قناعا يخفي هدفا أهم وأعمق من المصلحة الفردية فما هو مستور وراء الايديولوجيا هوغل المستضعفين وضحايا الحياة، ذلك الغل الذي خلق عالما أعلى، عالما وهميا بجانب العالم الذي نعيش فيه لأنه يعادي الطبيعة والذي أي الغل اخترع الثقافة والحضارة لأنه يعادي واقع الأشياء الحياتية واختلق النفس التي قد تستحيل الى «الشكل الأساسي من الوعي والمعرفة» لأنه يعادي سيول النفس الطبيعية.
إن ما ذهب اليه نيتشه هو شك في قيمة العقل والوعي ومن هنا أراد أن يقيم منهجا جينيالوجيا لفهم ظاهرة اللاوعي والأكيد أن هذا النوع من التصور «يقتضي فكرا ارتضى أن ينزاح عن مركزية الوعي بالتفكير في اللاوعي».
فرويد : كل وعي يقوم من حيث الأساس في اللاوعي
قام فرويد بتأسيس قراءة جديدة للذات الانسانية تجاوزت الأطروحات الفلسفية القديمة، تلك الأطروحات التي أثبتت أن الإنسان أصبح سيدا على نفسه بالإرادة والوعي (كانط وهرسل) فديكارت اعتقد أن الذات الانسانية تقوم أساسا على التفكير لأن التفكير أو الوعي يؤدي الي اليقين بالذات أمّا هيقل فإنه تجاوز هذا الموقف الديكارتي مؤكدا على قيمة الآخر في تأسيس الوعي بالذات وصولا الى المطلق لكن هذا المنطلق انزلق الى تبرير تعسفي لنظرية فلسفية متعارضة مع منهجها الذي يقول بالتطور فكان لماركس أن أعاد للمنهج أساسه الصحيح فبين كيف أن الوعي الانساني لا ينبثق إلا في اطار علاقات موضوعية والتي تكون أساسا لظهور كل أشكال الوعي البشري ورغم هذا التقدم التاريخي فإن الوعي يبقي في حالات كثيرة زائفا نتيجة للصراعات فالطبقية تولد صراعات ايديولوجية، ومن هنا أوضح ماركس ان الايديولوجيا خاصة ايديولوجيا الطبقة الحاكمة زائفة وهذا منعرج فلسفي وثقافي أحدث رجّة على مستوى وجهات النظر في الوعي فأصبح التساول قائما حول حقيقة وموضوعية هذا الوعي.
اكتشف فرويد أهمية اللاوعي الذي أحدث انقلابا في مفاهيم علم النفس من حيث الموضوع والمنهج والغاية ولعلّ هذه القطيعة المعرفية هي التي تبين لنا كيف أن الانسان كان يجهل حقيقة ذاته ألم يقل فرويد ان «الانسان لم يعد سيّدا حتى في بيته» وهذا يعني أن ما يتحكم في وعيه وحياته الواقعية هو لاوعيه وحياته الباطينة.
يقوم النشاط النفسي على طبيعة العلاقة القائمة بين القوى النفسية الثلاث، ألا وهي الوعي واللاوعي وحسب تعديل نظرية فرويد الأنا، الهو والأنا الأعلى يعتبر الانسان قبل كل شيء كائنا اجتماعيا تضبط سلوكه مجموعة معايير أخلاقية وثقافية وحتى ايديولوجية والتي تفرض عليه أوامر قد تجعل جميع رغباته ملتزمة بأن تكون مناسبة لمحتوى القيم السائدة فإذا كانت الرغبات لا تتوافق مع ما ذهبت إليها التشريعات فإنها تقمع وبالتالي تتحول الى كبت وما نجده في الأعراض والأحلام ليس إلا تجسيدا للرغبات المكبوتة اذ تمثل هذه الهفوات أعمق أسرار الإنسان الشخصية على حد قول فرويد.
لقد برهن سيجموند فرويد «بطريقة متقنة أهمية الوعي لدى الانسان حيث انتهت ممارساته العلاجية التطبيقية الى اقناعه بأننا نخبئ في مكان ما من وعينا كل ما رأيناه وعشناه بحيث يمكن له أن يصعد من جديد الى السطح. فعندما نقول (هذا يذكرني بشيء ما) أو (هذه العبارة على طرف لساني) فإننا لا نفعل أكثر من التعبير على الطريق التي يسلكها كل ما كان كامنا في اللاوعي ووجد أخيرا بابا مفتوحا يعبر منه إلى الوعي».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.