طوت الكتب العلمية وطفقت تتأمل تموجات الروح بين طيات الجسد المتقد بالحركة. كتب الطب ما عادت تقنعها. الاجهاد لم يعد حافزا للراحة. العتمة تتراءى كستائر داكنة عند اليقظة من كابوس الهدوء. هل ثمة ما ينهك الذهن عدا حاجته للاسترخاء. هل ثمة ما يرسم الحياة في جسد نائم يحلم المستحيل؟ وهل ثمة ما يروي جذور الحركة في جسم قابع على كرسي في قارعة الطرق الساكنة؟ الحركة تشع نشاطا. تنهض على أشعة النور، تسكب زيت الوجود، وتحبل جنين الآتي المتوقد. وتزرع الطوق لمعانقة المجهول الكامن في تمثال الجهد، الحركة معاول تهدم الطين المتكلس، تنفض الغبار عن روح الجمال المنحبسة في القاع. الروح تتسع في شعاب القلب المشتعل، تدفق نافورة الجدوى في الجسد فينهض متموجا كما تندفع الأمواج في سيرها الأبدي نحو الشاطئ ويرتد إلى العمق مكسوا بالنبضات. فتحت كتابا علميا، تصفحت صورة الجسد، كان متجزءا تبرز منه الشرايين والأوردة. وتنتفخ فيه العضلات وتتقلص وتتراءى الأعضاء الداخلية كقطع معطبة. ولا حركة تدل على عودة الحياة إليها. إنها تشعر بالغثيان كلما تمثل لها جسدها على تلك الصورة. وتتقيؤ القبح المنبعث من داخلها. كلما اكتست نفسها بالازدراء. وتصرخ: ما هكذا تواجهنا صورة الجسد! تحرك أطرافها، تدير رأسها، يتمرد جسدها على الاجهاد، تنهض، تدفع إحساسها نحو حركاتها المتناسقة وتدور كفراشة تهوى اللهب. تطوق يديها بحركات دائرية ثم تفتحهما فتنحل الدائرة. ثم تتشكل من جديد.. تتفتح الأيام وتنغلق. وتواصل الأرض دورتها مستنهضة الجسد المتوثب. خمنت أنه بات من الضروري القيام ببعض التمارين الروحية الصعبة، فقد كانت تعود دائما إلى كتاب حول علم النفس العميق.. لأوسبنسكي.. تمرنت من خلاله على تمارين اليوغا، أضحت حاجتها لاكتساب قوة خارقة أمرا ملحا. فهناك عمل كبير ينتظرها. ذلك ما ردده أحد أساتذة.. أوسبنسكي: «لا يمكن أن نقوم بعمل كبير مادمنا مستسلمين لكل شيء عادي ومريح» فما كان منها إلا الرغبة في القيام بجهد ما عوض الاستسلام لحاجة جسدها المتعب، فتحت شباك الغرفة، لمحت بعض الأشجار المتعانقة وقد انتشر على أوراقها ماء المطر. فأضحت أكثر نصاعة وخضرة. تناولت كأس الماء وطفقت تنظر إلى الشجرة بتركيز. فثبتت عيناها في نفس الاتجاه أبصرت نقاط مختلفة تشكل صورة منقطة. بدت كمسامير دقت على لوح خشبي. توقف خيط تفكيرها وهي تربط هذه النقاط. النقاط تحولت إلى دوائر صغيرة، عمقتها قطرات المطر العالقة على الأوراق توجهت لماعة فانبسطت أسارير وجهها وقد راودها جمال المشهد. انفتح فمها تدريجيا. انبعثت منه أصوات خفيفة، بدا لها أنها تتكلم بلغة مختلفة تستمد حروفها من تلك النقاط التي شدتها بقوة مغناطيسية. لم تع تقلص عضلاتها وتجمد الدم في عروقها وثبات وقفتها. ولم تعد تنتبه إلى ما يدور حولها. دق الباب دقات متتالية، ثم دخلت أختها نادتها. هدى.. هدى.. لكنها لم تعد تبالي بأي صوت بل صارت مشدودة إلى الشجرة. اقتربت منها ورتبت على كتفها تحاول ايقاظها من حالة الذهول واخراجها من دائرة الاستغراق.. فشهقت.. وسقطت الكأس.. اتجهت نحو باب الغرفة تغلقه. ثبتت يدها على المفتاح لتشعر أنها محاطة بأسوار آمنة وبباب مغلق. ضغطت على رقبتها بكلتا يديها وشعرت بحاجة لتواصل تمريناتها. تمددت، أرخت عضلاتها وركزت انتباهها على حاسة الشم. تناهت إليها روائح الخشب القديم وانبعثت في أرجاء الغرفة. حولت انتباهها نحو أذنها فتناهى إليها عزف الريح آت من بعيد. الرجل اليمنى صارت ثقيلة. أما اليسرى فقد توهجت بالحرارة. تكورت اليد اليمنى كأنها تمسك كرة حديدية ثقيلة تمدّها إلى الأخرى. استمعت إلى نقرات المطر على الشباك تطرق نفسها بإلحاح. تطهر هواجسها. تؤكد لها أنها خارج ذاتها. طفقت تنظر إلى السقف بقلق كأنها تبحث عن منفذ من الغرفة والركض بعيدا.. الطقس في الخارج ينبئ بحالات متقلبة. اندفعت زخات المطر صاخبة ترتطم على النافذة والجدران كأمواج البحر العنيف. تراءت السماء مظلمة فعزفت عن رغبتها في الخروج. بدت أجواء الغرفة حميمية وفرت لها الهدوء الذي تود تحقيقه وبلغت حالة قصوى من التركيز الذي لم تبلغه من قبل. فالريح التي تعصف بالأشجار لم تعد تضج بالصور الصاخبة، وشعرت بتفكيرها يجد نقطة الارتكاز التي ناشدها. نقطة تلتقط أصداء الروح وألمتها. تسترسل نقاطا لتتخذ أشكالا دائرية تنفتح كما تنفتح الزهرة فجرا. مضمخة بالندى وبعطر الجمال. هل يبدأ التفكير من هذه النقطة، هل يتخذ الصور لتسطير تأملاته. أهل تصطدم أسطره بالمشاهد الممتدة حوله تنعكس عليها تعبيراته. بدا لها أن تفكيرها استرسل خارج الغرفة، خارج الطبيعة تضج من حولها. تجرّد من الصور واخترق ظلالها الداكنة وقوع ربى الحيرة في نسيج الذاكرة.