في مثل هذا اليوم 17 ديسمبر من العام الماضي 2010، أشعل محمد بوعزيزي النار في جسده النحيل، إيذانًا بولادة ما بات يعرف ب "الربيع العربي". كان بوعزيزي (بائع الخضار) قد صادرت الشرطة التونسيَّة عربته (مصدر رزقه الوحيد)، بل وقامت شرطيَّة بصفعة على وجهه عندما حاول التظلم أمام مبنى الولاية، فما كان منه إلا أن قام بإضرام النار في نفسه أمام مقرّ إدارة ولاية سيدي بوزيدالتونسيَّة. كانت هذه الصفعة بمثابة الشرارة التي أشعلت الثورة التونسيَّة ومن بعدها ثورات عربيَّة متلاحقة، أما بوعزيزي فقد توفي بعد 18 يومًا من هذا اليوم، لكن روحه ظلت تذكي روح الثورات العربيَّة في كل ميدان وكل ساحة، بل وسرعان ما تحوّلت روحه إلى براكين غضب تجتاح العالم العربي، وراحت العروش العربيَّة تتهاوى أمامها واحدًا بعد آخر، وكأنها عروش من ورق. فقد أدى حادث محمد البوعزيزي إلى احتجاجات شعبيَّة من قبل أهالي سيدي بوزيد في اليوم التالي، يوم السبت 18 ديسمبر، حيث قامت مواجهات بين مئات من الشبان في المنطقة وبين قوات الأمن، وسرعان ما تطوّرت الأحداث إلى اشتباكات عنيفة وانتفاضة شعبية شملت معظم مناطق تونس احتجاجًا على ما اعتبروه أوضاع البطالة وعدم وجود العدالة الاجتماعيَّة وتفاقم الفساد داخل النظام الحاكم، وأجبرت الانتفاضة زين العابدين على التنحي والهرب، من البلاد خلسة إلى السعوديَّة، في 14 يناير 2011. وإذا كان مفجّر الثورة قد فارق الحياة بعد إحراق نفسه بعد 18 يومًا، فإنه تحول إلى "كلمة سر" لثورات الشعوب العربيَّة التي انتفضت ضدّ حكامها في عدد من الدول العربيَّة وأسقطت ثلاثة جبابرة، هم: الهارب التونسي زين العابدين بن علي، والمخلوع المصري محمد حسني مبارك، والهالك الليبي العقيد معمر القذافي. وفي تحليله لتلك المرحلة، قال الباحث الاجتماعي التونسي خليل رابح "إن حادثة البوعزيزي كانت القطرة التي أفاضت الكأس نتيجة تراكمات عديدة أبرزها سياسة الدولة التي همشت منذ الاستقلال المناطق الداخليَّة، بالإضافة إلى استفحال ظاهرة البطالة". فقد حاول الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، أن يقترب من ذلك الكأس المملوء، لاحتواءه بأي شكل، فقام بزيارة لبو عزيزي في المستشفى قبل وفاته، فاكتشف بأن طوفان الثورة أقوى من أن يصمد أمامه، وكان بن علي الأذكى بين نظرائه من الزعماء المخلوعين، فقد فضل الهروب قبل أن يغرقه الطوفان، وآثر المثل العربي القائل (إن جالك الطوفان....). أما الرئيس المصري، حسني مبارك، فلم تجد جميع محاولاته لحماية عرشه من ذلك الطوفان، فحاول أن يأوي إلى جبل يعصمه من طوفان الملايين التي حاصرته من كل جانب، فأدركته، وأصبح من المسجونين. فيما قرر الرئيس الليبي، معمر القذافي أن يواجه الطوفان بنفسه هو وأولاده، مأخوذًا بنشوة جنون العظمة، فكان من الهالكين، وأصبح أولاده من المشتتين في الأرض. أما الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، فقرر أن يركب موجة طوفان الثورة، غير مدرك بأن الموجة هذه المرة أكبر من قدراته على المراوغة، فنالته شرارة من لهب، كادت أن تودي به، فاستسلم أخيرًا لخيار البقاء مقابل الرحيل، ولا زال يبحث عن حصانة تحميه من النار. والرئيس السوري، بشار الأسد، رغم إدراكه بألا جدوى من المواجهة، لا زال يواجه الطوفان بيد، وبالأخرى يتحسّس باحثًا عن زورق للنجاة. كان طوفان ربيع الثورات العربيَّة السبب الجوهري في تغيير بنية العلاقة بين الحاكم والمحكوم، حيث بدأت الأنظمة العربيَّة (ولأول مرة في تاريخها) تصغي إلى شعوبها، بل وتطلب رضاها، وتخطب ودها!! بل ولم ينته الأمر إلى هذا الحدّ، بل أدَّى هذا الربيع العربي إلى تغيير المعادلات الإقليميَّة وعلاقاتها بالمعادلات العالميَّة، حيث أسقط هذا الربيع أكبر أنظمة متهمة بالعمالة للغرب على مدار ستة عقود كاملة من الزمان.