قد يستغرب القارئ من وجود غيرة في العلاقات السياسية لأنه كثيرا ما كنا نسمع مصطلح الغيرة يتداول فقط بين النسوة أو جيران الحي أو بين الأقارب ، و حتى هذا النوع من الغيرة فهو قصير العمر و محدود الأثر ، و أما الغيرة السياسية فهي قاتلة و مهدمة للأوطان و مفككة للتعايش السلمي داخل المجتمع المتماسك ، و للغيرة قصص و أحداث... ذكرتها الكتب السماوية و دونها علماء التاريخ و الاجتماع و النفس باعتبارها سببا رئيسيا في إحداث الشرخ في العلاقات الانسانية ، أو لعلها من أكبر العناصر التي كانت وراء دمار أنظمة و مجتمعات و دول و حتى زوال ممالك و غياب زعماء ، لا لشيء سوى من حقد و غيرة غمرتا قلب صاحبهما و جاء ذكر الغيرة و الحسد في القرآن كأول دافع لقيام جريمة قتل على البسيطة و هذا ما سيأتي ذكره لاحقا . و لكن قبل الإبحار في صفحات القرآن و كتب التاريخ يؤسفني ان أشير إلى أن ما تشهده تونس اليوم من انفلاتات أمنية و مظاهرات مشتتة هنا و هناك و دعوات للخروج على الحكومة الشرعية و اعتصامات بسبب و بدون سبب و اضرابات محقة و أخرى غير ذلك فإن دوافع جل ذلك وراءه الغيرة و الحسد لأن اليسار المتطرف و بقايا النظام البائد خيل إليهما أنهما من صفوة القوم و أنهما الوريث الشرعي لعائلة الطرابلسية فضلا عن ذلك كانت لهما امتيازات و كانا يرغدان في بحبوحة من العيش في العهد القديم و لم يرق لهما أبدا أن يكونا خارج السلطة و قد ذاقا حلاوتها و استمتعا بامتيازاتها و لم يستسيغا مطلقا انتقال السلطة لحركة النهضة على الخصوص ، لان رجالها من القوى الرجعية و الظلامية و لا يحسنون سوى تشييع الجنائز و قراءة القرآن على الأموات كما يعتقدون . و لكن اليوم ... الحال تبدل و الزمن الذي نعيشه غير زمن الماضي و بدل الله برد الشتاء برياح الربيع و زعماء المافيا بأئمة مستضعفين و شعب خانع بشعب ثائر و استجاب القدر لإرادة حياة الشعوب المؤمنة التي هداها الله لسبيل الحق و العدالة و الحرية . و لكن تبقى دائما قوى الشر و النفوس الدنيئة تكابر و تصارع الحق و الفضيلة لأنها اعتادت على العيش في الأوحال من الرذيلة و الفساد طيلة عقود مضت و يصعب عليها الانتقال من حياة دنيئة الى حياة هنيئة و لذلك يجد الحقد و الغيرة موطن قدم في نفوسهم و يدمرون كل معنى للخير و للفضيلة . و اليكم امثلة و قصص لتقريب الصورة و إجلالا للأمر : جاء في القرآن و من بعده في كتب التفسير أن أول معصية لله كانت في الحسد حيث امتنع إبليس أن يسجد لآدم و استكبر و قال كيف أسجد لمن خلقته من طين و أنا خلقتني من نار فدخل الحسد قلبه و عصى الله فطرده جل جلاله و تولد من طرده كل بلاء و فتنة عليه و على العباد كما جاء ذلك في كتاب سبل السلام و أصبح يتحالف مع كل نفس ضعيفة تسعى في الأرض فسادا و تأبى الخير و الإيمان و التوحيد . و في مشهد آخر لا ينفصل عن نزعات الشر و الأنانية و التعالي ، حينما رغب هابيل بالزواج من اخت قابيل التي كانت أجمل من اخت هابيل و عملا بشريعة ذلك الزمان ، الا أن قابيل استأثر بها على أخيه و غلبته نزعات الانانية فاحتكما لله عز و جل فتقبل الله قربان هابيل و لم يتقبل قربان الآخر فغضب قابيل و ملك قلبه الحسد و الغيرة فرفع صخرة و شدخ بها رأس أخيه... و بذلك كانت أول جريمة قتل تحدث على الارض و رجح كثير من المؤرخين أن أحداث الجريمة تمت ببلاد الشام ، و ربما إذا صح التأويل فإن المجازر اليومية التي نشهدها في يومنا هذا بسوريا قد يكون مردها أن سوريا كانت بلد منشأ الجريمة و صاحبة سابقة قتل شنيعة بين أخوين يفترض أن يعمرا الأرض زرعا و حرثا و إيمانا و توحيدا و ليس للتقاتل و التباغض و إن كان هابيل استعصم بالله و رفض ان يجاري أخيه . و موقع الجريمة أصبح مزارا بدمشق لكل من له رغبة في المزيد من المعرفة و التدقيق . و في عرض قرآني آخر يتحدث عن فيروس الغيرة و الحسد لما ينخرا جسم الانسان و يفتكا بالمناعة و سلامة العقل و ذلك حينما عرف نبي الله يعقوب ان رؤية يوسف عليه السلام تتضمن مجدا و سلطانا لابنه فمنعه من ذكر ما رآه في المنام لإخوته خوفا عليه من الحسد إلا أن إخوته ملكتهم نزعة الشر على نزعة الاخوة فحسدوه و غاروا منه من كثرة ولوع أبيهم به و إيثاره عليهم فدبروا له مكيدة و القوه في الجب . و في واقعة مشابهة لقصة قابيل و هابيل و في زمن التصفيات الجسدية التي قام بها ستالين بالتحديد و التي لم يسلم من بطشه منها أحدا ، حيث دفعت نزعة الغيرة و الحسد ستالين من رفيق دربه تروتسكي التي كانت حياته حافلة بالنشاط السياسي الثوري و كان طموحا لتولي زمام السلطة في الحزب و الدولة و كان مؤهلا لذلك فسولت لستالين نفسه باغتيال رفيق دربه تروتسكي بمنفاه بالمكسيك سنة 1940 و شدخ رأسه بسطور على طريقة قابيل و إن اختلفت أداة القتل و الفرق الزمني و لكن تبقى غريزة الشر و الحسد و الغيرة دافعا أساسيا لارتكاب الجريمة . إن الغيرة السياسية تدفع صاحبها لارتكاب جرائم قتل مع سبق الإصرار و هذا ما جرى لرسول الله مع يهود المدينة لما كانوا يعتقدون أن النبوة لا تخرج منهم و أن الزعامة الدينية في جزيرة العرب تبقى تحت عباءتهم و لما أظهر الله محمدا صلى الله عليه و سلم اغتاظوا و أشعلوا حربا ضد رسول الله حتى أطفأها الله . و اليوم في تونس و بعد الاف السنين من تلك الأحداث يبقى القاسم المشترك بين قوى الشر قائما يهدد الأمن و سعادة البشر ، و النزعة البشرية الأنانية التي يغذيها الحقد و الحسد و الغيرة تكرر مشهد إبليس في استكباره و عدم قبوله للاخر كما هو الحال في تونس و يستأثر جمع كبير من بقايا النظام و فلول اليسار المتطرف بمواقع حساسة بالدولة كما استأثر قابيل بأخته رغم مباركة الله لهابيل . فضل نبي الله يعقوب إبنه يوسف على إخوانه لصفات لم يجدها عند غيره فحسده إخوته و أسقطوه في الجب و نفس حلقة التاريخ تتكرر و يفضل الشعب التونسي الحركة الاسلامية على بقية أحزاب العلمانية المتطرفة و اليسار الملحد فيغمر الحسد قلب المنهزمين و يريدون إسقاط الحكومة في جب الارهاب و ردة فعل غير مدروسة . و في محاولات ابتزازية من قبل المنهزمين و سعيا منهم لإسقاط الحكومة تحت أي مسمى يستمر مسلسل الغدر و الحسد و الغيرة و كانت أول حلقاته الاستفتاء ثم إعلان المسار الانتقالي ثم تشكيل المجلس الموازي و أخيرا و ليس آخرا إعلان تصحيح المسار السياسي و لا عجب أن نسمع غدا تشكيل حكومة بديلة مادام الحسد و الغيرة عميت بصيرتهم و بعبثهم هذا الصبياني سيجرون البلاد الى حلقة من الأزمات و التعقيدات و يكون المواطن التونسي البسيط هو الخاسر الأكبر ... و أختم مقالي بهذه الاسطورة التي كثيرا ما يتم تداولها ببلاد الشرق و هي تختصر الحالة التونسية الحالية و للقارئ أن يفك العنان لخياله و يستحضر تونس و القوى المتناحرة على السلطة . ذهبت إمرأة إلى جان تسأله أن يعطيها كل ما تطلب ، فوافق الجان شريطة أن جارتها ستنال ضعف ما تحصل عليه و كان الاتفاق . فطلبت في البدء منزلا فاخرا ، فكان لها ما أرادت و إذا بجارتها تملك منزلين فاخرين ، فطلبت المرأة سيارة فخمة فكان لها ما أرادت و إذا بجارتها تحصل على سيارتين فخمتين . فاغتاظت المرأة الاولى و بدلت سؤلها حتى تنتقم من الثانية فذهبت للجان و سألته ان يفقع عينها ،فكان لها ذلك و إذا بالثانية تصبح عمياء ففرحت بفكرتها و سألت الجان في المرة الثانية أن يقطع يدها اليمنى فإذا بالثانية تخسر اليدين الاثنتين و طلبت أيضا من الجان ان يقطع رجلها اليمنى ففعل و إذا بالثانية تفقد رجليها الاثنتين و قالت المرأة الاولى هكذا أنا الآن أحسن حال و افضل منها .