لا يوجد مواطن عراقي واحد كان يتوقّع من برلمانيّ المنطقة الخضراء غيرالمصادقة, صاغرين طائعين فرِحين في الوقت نفسه, على الاتفاقية الأمنية بين إدارة المجرم جورج بوش وعملائها من "قادة" العراق الجديد. وكما دأبوا في التعامل مع أي شأن عراقي مهما بلغت أهميته وخطورته, تصرّف من يدّعون كذبا وبهتانا أنهم نواب الشعب العراقي وكأنهم في أحدى قاعات المزاد العلني الشهيرة. فخضع موضوع الاتفاقية الأمنية الى قواعد وأساليب السوق ومبدأ العرض والطلب وتحوّلت القضية برمّتها الى تجارة وسمسرة وعهر سياسي في وضح النهار. فمن أعطى صوته لصالح الاتفاقية المشؤومة ووضع توقيعه عليها توهّم أنه حصل بالمقابل على شيء ما. لكن ممثلي"الشعب" هؤلاء لم يدركوا, لأنهم منساقون خلف سيدّهم المحتل كالعميان, بأن كلّ ما سيحصلون عليه مستقبلا هو الخزي والعارالى يوم الدين. يُضاف الى ذلك إن الشعب العراقي الذي إنتخبهم, لا ليسلّموا الوطن وخيراته ومستقبل أجياله كجائزة كبرى الى أمريكا بعد أكثر من خمسة أعوام كالحة السواد, سوف يقتصّ منهم مهما طال الزمن. فما ضاع حقّ وراءه مُطالب. ولم يكن حراك وعراك ومساجلات أبطال برلمان الخرفان في بغداد المحتلّة, في الأشهر السابقة, الاّ للحصول على المزيد من المكاسب والغنائم المتبادلة بين أطراف المساومين والمتاجرين, لا ببضعة براميل من النفط أو بصفقة أسلحة أو ما شابه, بل ببيع وطن وشعب وأرض وتاريخ وحاضر ومستقبل. فقد خلع كلّ منهم القناع الذي حاول فيه إخفاء وجهه البشع ونواياه السيئة ومعدنه الرديء ونزل الى ساحة البرلمان, أو بتعبيرأددقّ الى سوق الصفاة "سوق بيع الحيوانات الأليفة في محافظة ميسان", وراح يقدّم مطالبه بالاصلاح هنا والتعديل هناك أو إجراء إستفتاء شعبي على الاتفاقية الأمنية...ألخ. وإذا كان ثمة عارمضاعف وإدانة ثقيلة وبأسوء التعابير والأوصاف فان"الحزب الاسلامي العراقي" لصاحبه طارق الهاشمي نائب ما يُسمى برئيس الجمهورية, يستحقّها بجدارة عالية وبامتياز نادر. فقد سبق لهذا الحزب الذي يدّعي أنه يمثّل المكوّن"السني" في العراق وأن خُدع في تمرير الدستورالعنصري الطائفي على أمل إجراء تعديلات عليه. وكان هذا أحد شروطه لّلحاق بالمسيرة الأمريكية - الايرانية المظفّرة ّ! ومرّت الأيام ودارت الأيام, يا طارق الهاشمي, ولم يتم تعديل حتى فارزة واحدة ولا نقول جملة في الدستور. ويبدو إن العبد, في الحزب الاسلامي العراقي, يُلدغ من نفس الجحرمرتين وربما أكثر. والمضحك في موقف ساسة عراق اليوم هو ليس الجهل السياسي المطبق, ولذي هو سمة مميّزة للجميع, بل قناعتهم العمياء بان كلامهم ومطالبهم وشروطهم سوف يُحسب لها حساب عند أسيادهم الأمريكان, متجاهلين أو متناسين.إن أمريكا هي دولة خارجة عن القانون منذ قيامها وحتى اليوم. لم تلتزم يوما ما باتفاقية أو تحترم معاهدة أو تخضع لسلطة دولية أو تردعها أخلاق أو قيم إنسانية عن إرتكاب جرائم وإنتهاكات وتجاوزات بحق الدول والشعوب الأخرى. ومن السذاجة والغباء الاعتقاد بان أمريكا سوف تنسحب من العراق في عام 2011 إلتزاما وتطبيقا لما ورد في الاتفاقية الأمنية. فالتاريخ, قديمه وحديثة, لا يحفظ لنا مثلا واحدا عن دولة تحرّرت من المحتّلين عن طريق التفاوض أو عقد الاتفاقيات معهم. ولم نسمع إن دولة إستعمارية إنهت إحتلالها لدولة أخرى بملأ إرادتها أو برحابة صدر.على العكس تماما, إن ما يُرغِم المحتل على الانسحاب أو الهروب هو المقاومة بكافة أشكالها, وعلى رأسها المقاومة المسلّحة. ولنا في تجربة الشعب الجزائري والشعب الفيتنامي خير مثال. وإذا كان لا بدّ من التفاوض مع المحتل, بعد أن فقد كلّ أمل له في البقاء مرتاح البال, وبعد أن إنهكت قواه العسكرية والاقتصادية, فان التفاوض يجب أن يتم بين قوات الاحتلال نفسه وبين القوىالوطنية المقاومة التي قارعته ووقفت له بالمرصاد, وحوّلت وجوده الاحتلالي الى كابوس أسود وكبّدته خسائر فادحة في الأرواح والأموال والمعدات, وليس مع عملاء جاء بهم هو ونصّبهم حكاما على العباد والبلاد, كما هي حالة ساسة العراق الجديد, والذين يبصمون مغمضي العيون على كلّ ما يريده المحتل دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء قراءة ما يُطلب منهم. والسؤال الذي يتبادرالى ذهن أي إنسان هو كيف إقتنع "قادة" العراق المحتل بان أمريكا سوف تفي بوعدها وتنسحب من العراق وتحترم ينود ونصوص الاتفاقية الأمنية التي طبّلوا وزمّروا لها على مدى شهور طويلة؟ وهل يملك عملاء المنطقة الخضراء السلطة والقدرة والقوة, ناهيك عن الارادة الصادقة, لآرغام أمريكا على الخروج لو رفضت الانسحاب من العراق في الفترة التي حدّدتها الاتفاقية الأمنية؟. وهل ثمة طرف ثالث محايد بين واشنطن وبغداد يمكن اللجوء اليه إذا ما حصلت خلافات, في السنوات الثلاث المقبلة, حول كيفية تطبيق بنود ونصوص الاتفاقية الأمنية؟. خصوصا وإن أمريكا, وهذا ليس بخافٍ على"قادة" المنطقة الخضراء, هي في الحالة الراهنية الخصم والحكمُ . ان الاتفاقية الأمنية التي صادق عليها برلمان بغداد المحتلّة منحت الاحتلال الأمريكي شرعية لم يحصل عليها من أية جهة في العالم, وحفظت له ما تبقى من ماء وجهه القبيح. كما أنها, أي الاتفاقية, إنقذت أمريكا, ولو مؤقتا, من نهاية قد لا تختلف كثيرا, إن لم تكن أسوء, من تلك التي مرّت بها في فيتنام سابقا. وفي كلّ الأحوال, تبقى الاتفاقية الأمنية عبارة عن"عقد عمل" مدّته ثلاث سنوات أُبرم بين السفيرالأمريكي في بغداد ومجموعة من العملاء والمأجورين والسماسرة واللصوص المحترفين الذين ينتمون الى قوميات وأحزاب ومذاهب مختلفة شاءالقدر, وليته ما شاء, أن يتربعوا على عرش العراق, وطن الحضارات والرسل والأنبياء والآبداع, بعد أن حوّلوه الى ركام وخرائب ينعق بها غراب البين الأمريكي.