عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالمنصورة وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين تتصارع الأفكار والمشروعات على كسب عقول الجماهير وقلوبهم، ويطرح كل مشروع نفسه حاميا لمصالح السواد الأعظم من الأمة، ويتبارى المنظرون لهذه المشروعات في شرح فلسفة كل مشروع وبيان أوجه المصالح التي تعود على الغالبية من الأمة جراء قبوله وتطبيقه، مثلما يتبارون في النيل من المشروعات المنافسة والتركيز على سلبياتها، وقد تتابعت على التجربة في أمتنا مشروعات متعددة، فتقدم حملة المشروع الاشتراكي الذي ينتصر للطبقة الكادحة وينحاز للدولة المركزية ويدعو إلى العدل الاجتماعي والعدالة في توزيع الأعباء والثروات على المواطنين (من كل على قدر طاقته ولكل حسب حاجته كما زعموا)، ثم جرب أصحاب المشروع الرأسمالي الذي ينحاز لحركة رأس المال ويدعو للتنافس الحر الذي يفجر الطاقات ويساعد على الإبداع، وينحاز للقطاع الخاص على حساب القطاع الحكومي ولأصحاب رؤوس الأموال على حساب العاملين والكادحين، ولم تجن الأمة من وراء كل تلك المشروعات إلا الضياع والتأخر، وسبقتنا في ميدان الحضارة أمم كانت وراءنا بمراحل، وتجاوزتنا في ميدان التقدم والرفاهية أمم لا تملك معشار ثرواتنا وإمكانياتنا، فصارت أمتنا ضائعة في الغمار، مبهمة الملامح، مجهولة السمات. ومن ثم عادت الأمة تتلمس طريقها وتراجع هويتها، لتكتشف أنه لا نهضة حقيقة لها إلا في ظلال المشروع الإسلامي النهضوي الحضاري الوسطي المتوازن المنفتح على كل الثقافات والمشروعات الحريص على الأخذ بكل نافع ومفيد منها، والقائم أساسا على بناء الشخصية الوسطية التي تجمع بين حق الروح وحق الجسد، والتي أعطاها الإسلام جميع حقوق الإنسانية، ورسم لها المنهج الذي يمنحها التميز في الشخصية والكيان، وفي الأهداف والاهتمامات، وكثر الحديث عن انحياز المشروع الإسلامي هل هو للأغنياء أو للفقراء، وهل هو لخدمة الجماعة والعائلة أو لخدمة القيم السامية وتحقيق مجتمع العدل والكفاية، ولهذا رأيت من المناسب أن أشير إلى انحياز هذا المشروع لقيم الحق والعدل بحيث يقدم الكفاءة على الثقة، ويراعي الضعيف قبل القوي والبعيد قبل القريب، ولا يحابي في الحق ولدا ولا بنتا ولا حميما ولا قريبا ولا كبيرا ولا عظيما، بل الأمة كلها عنده سواء، ولا يُعطِي الحاكم فيه أعزَّ أهله قبل أن يعطي عموم الأمة من الثروات، فقد أخرج الشيخان عن أُمَّ الْحَكَمِ أَوْ ضُبَاعَةَ ابْنَتَيْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (ابنتي عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَنَّهَا قَالَتْ: أَصَابَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سَبْيًا (أي: غنائم من الكفار) فَذَهَبْتُ أَنَا وَأُخْتِي وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَسَأَلْنَاهُ أَنْ يَأْمُرَ لَنَا بِشَيْءٍ مِنْ السَّبْيِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «سَبَقَكُنَّ يَتَامَى بَدْرٍ، لَكِنْ سَأَدُلُّكُنَّ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُنَّ مِنْ ذَلِكَ: تُكَبِّرْنَ الله عَلَى إِثْرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» فيقدم صلى الله عليه وسلم اليتامى من أبناء شهداء بدر على بنته وبنات عمه. ولا يقدم ابنتَه وأعزَّ الناس عليه، وأحبَّهم إلى قلبه، على فقراء أهل الصفة، بل يقدم حاجتهم على حاجتها، فقد أخرج أحمد بسند حسن عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا زَوَّجَهُ فَاطِمَةَ بَعَثَ مَعَهُ بِخَمِيلَةٍ وَوِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَرَحَيَيْنِ وَسِقَاءٍ وَجَرَّتَيْنِ فَقَالَ عَلِيٌّ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا ذَاتَ يَوْمٍ: وَالله لَقَدْ سَنَوْتُ (استقيت الماء للناس بالأجرة) حَتَّى لَقَدْ اشْتَكَيْتُ صَدْرِي، وَقَدْ جَاءَ الله أَبَاكِ بِسَبْيٍ، فَاذْهَبِي فَاسْتَخْدِمِيهِ (أي اطلبي منه أن يعطيك خادما) فَقَالَتْ: وَأَنَا وَالله قَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجِلَتْ يَدَايَ(أي: نُزع جلدها)... فذكر القصة في مجيئهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ الله، وَالله لَقَدْ سَنَوْتُ حَتَّى اشْتَكَيْتُ صَدْرِي، وَقَالَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ الله عَنْهَا: قَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَايَ، وَقَدْ جَاءَكَ الله بِسَبْيٍ وَسَعَةٍ، فَأَخْدِمْنَا (أي: أعطنا عبدا يخدمنا)، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «وَالله لَا أُعْطِيكُمَا وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَطْوَى بُطُونُهُمْ لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ ، وَلَكِنِّي أَبِيعُهُمْ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ» فَرَجَعَا... الحديث في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ما يقولانه دبر الصلاة وعند النوم، وأنه خير لهما من خادم. ولا يميز صلى الله عليه وسلم بين أهله وبين رعيته في تطبيق الحدود الشرعية، بل يعد مثل هذا التمييز من أسباب هلاك الأمم، فقد أخرج أبو داود عن عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا في قصة رفض شفاعة أسامة بن زيد في المخزومية التي سرقت أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ الله لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» (. ومن كمال اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالضعفاء وذوي الحاجات بنى في مسجده الصفة التي كانت مأوى الغرباء والفقراء ومن لا أهل له ولا مال، وكانت الصفة بجانب بيوته صلى الله عليه وسلم، وكان النازلون فيها هم ضيوفه وضيوف المسلمين، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ينام قبل أن يطمئن عليهم، ولم يكن يتناول طعاماً أو شرابا من غير أن يشركهم فيه، بل كان يطعمهم ويسقيهم قبل أن يأخذ حظه صلى الله عليه وسلم، وهاك نموذجاً واحداً من اهتمامه صلى الله عليه وسلم بهذه الفئة الكريمة ، فقد أخرج البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه كَانَ يَقُولُ : أَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الْجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا هِرٍّ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «الْحَقْ» وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟» قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةُ. قَالَ: «أَبَا هِرٍّ». قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي». قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ، لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا... فذكر القصة في سقيهم وشربه من بعدهم ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم للفضلة من بعدهم. فهل عرفت لمن ينحاز المشروع الإسلامي للنهضة؟