عبده حقي:يستمد الواقع الثقافى المغربى راهنيته من تراكمات دينامية ثقافية قد شابتها الكثير من الاختلالات الناتجة أساسا عن نوع من التعاطى مع الشأن الثقافى باعتباره حقلا يقوم على الكثير من التعارضات والقيم والأفكار والتصورات التى اكتسبت البعض من "مشروعيتها" -وإن كانت تفتقد إلى إستراتيجية واضحة- من توترات الحرب الباردة ورياح عالمية وإقليمية متقلبة فضلا عن دعم خارجي، مادى ورمزى بأطياف متعددة يروم احتضان ثقافة الهامش التى ارتكنت إلى مرجعياتها وقواعدها القائمة على مشروع الفكر البديل فى تعارضه مع ماهو كائن ومن جهة ثانية بين ثقافة مؤسساتية تحكمها العديد من الضوابط والشروط الموضوعية والمشروعية التاريخية. ومن خلال هذه الرؤية الأولية الشمولية لثنائية الثقافة بالمغرب والوطن العربى على العموم، يتبدى إختلال العلاقة بين ماهو سياسى وماهو ثقافى كعلاقة لم تسلم من جدليتها الخاصة ومصيرها البعيد عن الاستقلالية.. إنها علاقة كانت وماتزال موسومة بعضويتها للسياسى "الحزبى والمؤسساتي"، إذ بقى جسر هذه العلاقة ومنذ مغرب الاستقلال إلى "مغرب الانتقال الديموقراطي" يمضى فى إتجاه واحد هو إتجاه القاعدة العامة: هيمنة السياسى على الثقافى تلك الهيمنة التى تتغيى تكريس واقع سوسيوثقافى تنصهر فيه كل مكونات الفسيفساء وكل العلامات التى تنتج المشهد برمته. ثقافة متغيرة كانت وما تزال ملامح الثقافة فى مستوياتها الإديولوجية والفكرية والأدبية على الخصوص مفتقدة إلى تصورها الخاص ولونها الذى يبصمها بالخصوصية والتفرد، فما ساد الثقافة المغربية منذ الإستقلال هو أنها ثقافة عملاتية يتغير وجهها بحسب تغيرالواقع وبحسب رغبتها فى إنتاج المتلقى المطلوب؛ كما لوأن هذا الوطن مغربان: مغرب يسير بثقافة براغماتية تحاول أن تنخرط فى حركية الاستثمار المالى والدينامية الإقتصادية باستدرارها للموارد الأساسية وتقعيدها على سياسة وبرامج حكومية من دون أن تحظى هذه الثقافة الرسمية كمنتوج رمزى فى سياسة الدولة بأولوية البحث الأكاديمى الأنتربولوجى إلا فيما ندر من أبحاث ودراسات أنجزها بعض الدكاترة والأساتذة الباحثين أو بعض المهتمين بمبادرتهم الخاصة مثلا: "موسيقى العيطة مع أبحاث حسن نجمى والراحل محمد بوحميد، وموسيقى أحواش مع الباحث عمر أمرير نموذجا..." ومن دون اعتبار لبعض المظاهرالثقافية الحداثية باعتبارها ثقافة ذات هوية مغربية محضة ومنجزة على جغرافية مغربية... ثقافة الهامش أما وجه العملة الآخر والأكثر إلتباسا وغموضا وهشاشة وافتقارا إلى اطار خاص ومعالم واضحة فهو ثقافة ما يسمى ب"الهامش"، الثقافة المشاغبة أو المحايثة لدينامية الإقتصاد الثقافى من دون أن تنخرط أو تؤثر وتتأثر بآلياته. لقد ظلت هذه الثقافة وعلى مدى أربعة عقود أو أكثر تقتات برأسمال رمزى مغامر "Capital culturel à risque"، إذ أن المغامرة فى دورتها الإنتاجية غير محمودة العواقب وهى تؤول فى الغالب وبالتجربة إلى الخسران والإحباط وغالبا ما يتم تعليق أخطائها وانتكاساتها وخساراتها بسياسة الدولة فى المجال الثقافى ونخص على سبيل المثال لا الحصر معضلة النشروالتوزيع وغياب معارض جهوية ضخمة للكتاب على غرار المعرض الدولى بالدار البيضاء.. إلخ. فهل تمكنت ثقافة "البديل" أو" ثقافة الهامش" هاته من تحديد شخصيتها ومعالمها داخل المشهد الثقافى المغربى العام وانخراطها فى شموليته؟ ومما لاشك فيه أن آفة الثقافة المغربية والثقافة العربية عموما كما سبق وأسلفنا هى ولاؤها للفاعل السياسى وانخراطها تحت سقف رمزيته بما هى ثقافة قد كانت حاملة لمشروعها التحررى والتقدمى "البديل" وكونها من جهة ثانية ثقافة ذات قوة رمزية غير أن معضلتها الكبرى أنها تتأثر ولا تؤثر فى المشهد السياسى بما أنتجته فى العقود الماضية من تراكم أدبى ورمزى وفكرى وإديولوجى فاقد لآليات التواصل الحقيقية مع القاعدة الواسعة من المتلقين، ليس مع النخبة المتعلمة فحسب بل حتى مع النخبة الجامعية والأكاديمية، ما جعلها إلى حدود أوائل التسعينات ثقافة تجتر نفس القيم والخطابات الإيديولوجية القديمة ونفس الجهاز المفاهيمى والأبجدياتى بل وتحافظ على كاريزمية بعض رموزها المؤسسين لها وتعمل بوعى تام على تلميع أصنامهم كلما سنحت الفرص لذلك وتقتفى آثارهم الفكرية قراءة ونقدا ودعاية. والسؤال الملح والمحورى هو: ماذا تغير فى الواقع الثقافى المغربى مع "الانتقال الديموقراطي"؟ وهل حققت مقولة التغيير مشروعها الديموقراطى على كل الأصعدة والمتمثل فى التوزيع العادل لوسائل الإنتاج الثقافى وإلى أى حد تم تحقيق البرنامج السياسى العام فى شقه الثقافي؟. التوزيع العادل لوسائل الإنتاج الثقافي لقد راهن المثقف فى المغرب كما المواطن العادى على أحلام التغيير ورياحه التى هبت مع تنصيب حكومة "الإنتقال الديموقراطي" والتى لاننكر وبكل موضوعية وصدق أنها دشنت العديد من الورشات الطليعية والرائدة على المستوى العربى والإفريقى خصوصا فيما تعلق بمصالحة المغاربة مع ماضيهم السياسى والإجتماعى وجبر الضرر النفسى والوجدانى إلا جبر الضرر الرمزى والمادى مع ماضى بعض النخب الثقافية! لماذا وكيف؟ لقد استعر الرهان والأمل عشية تعيين وزيرالثقافة السابق وتوسمت النخب المثقفة بعد هذا التعيين كل آمالها فى الإنصاف والمصالحة خصوصا وأن الوزير السابق "ولد دار الثقافة" فهوالسياسى والصحافى والشاعر والقاص ورئيس إتحاد كتاب المغرب وعضو إتحاد كتاب العرب ومهندس فكرة مؤتمر"إ. ك. ع" بالرباط، فقد خبر مكامن الداء فى الواقع الثقافى المغربى إبداعا وكتابة ومسؤولية ومعاناة من مخاض الإبداع إلى طواحين النشر إلى ماراثون التوزيع إلى بورصة التسويق وأخيرا وهذا بيت القصيد إلى صندوق الدعم الثقافي...الخ ولاشك فى أن الرهان ومنذ صعود حكومة التغيير أواخر القرن الماضي، كان بالأساس إعادة الاعتبار للمبدع والإبداع، وللمثقف والثقافة المغربية وتبديد غيوم سنوات شدّ الحبل بين الثقافة والسياسة، والعمل على خلق ربيع العلاقة بين السلطة والثقافة وطى صفحة الماضى إذ كان المثقف يحمل دائما قناع "الشيطان" الذى أبى واستكبر ثم إعادة التفكير فى إطار إستراتيجية التغيير"بنظام التقطير goute à goute" والمراهنة على الفعل الثقافى باعتباره رقما أساسيا فى معادلة الكيان المغربى وعضوا ضروريا فى دينامية التنمية البشرية وأساسا كائنا مدججا بكل الأدوات الفنية والفكرية لتحصين الهوية الوطنية المغربية بكل رموزها وقيمها العليا من حرب الإبادة الباردة "العولمة"... ولا ننكر أن القليل من تلك الأحلام قد تحقق ولعل أهمها الرفع من ميزانية وزارة الثقافة ضمن الميزانية العامة للحكومة والكثير من الأحلام مع الأسف لم يتم بلورتها وترجمتها على أرض الواقع انسجاما مع آمال وانتظارات الفئة العريضة من الفاعلين فى الحقل الثقافي... لقد انحصر تحقيق التصور الثقافى الجديد فى مشاريع محدودة ومعدودة، وبقدرما شرعت أبواب "التناوب السياسي" تكرس الغبن والحيف فى حق العديد من المثقفين... لقد إنطلقت أولى هذه المشاريع بإطلاق سلسلة "الأعمال الكاملة" و"الكتاب الأول" و"دعم الكتاب" واستبشر الكثير من الكتاب بهذه الآليات التقدمية الجريئة خيرا لكن ما ساد غداة إطلاق هذه المشاريع هو عمليات متلبسة بالشبهة وغياب الرؤية الواضحة والشفافية فيما يخص تصريف الدعم إذ أن بعض المسلكيات كانت ومازالت لا تمت إلى العدالة الثقافية والقيم الفكرية الرفيعة بصلة فقد اعتورت ورانت على حق الدعم وحق الجميع من المال العام التباسات منها ما ظهر ومنها ما بطن وهكذا باتت كتابات الكثير من الأقلام "المغمورة" على رفوف الوزارة تكابد مرارة الحيف وتجتر نفس آلام سنوات القهر لكن بلون آخر هو لون التغيير!؛ التغيير من أجل مصالحة بعض الذوات الثقافية مع ماضيها وليس مع الواقع الثقافى العام.. أما بخصوص مشروع الأعمال الكاملة فقد تم إصدار الأعمال الكاملة لكل من الأديب عبد الكريم غلاب ومحمد زفزاف وإدريس الخورى ومحمد شكرى وعبد الكريم الطبال وربما هناك آخرون.. فيما ظل التكتم مهيمنا حول المعايير العلمية والفكرية والمنطقية التى تم إعتمادها فى هذا المشروع، إذ أن العديد من الأدباء والمفكرين القانعين من هم أيضا أجدى وأحق من الإنتظار فى الطابور ويكفى أن نذكر من بينهم المسرحى الراحل محمد تيمد والشاعر محمد السرغينى والروائى أحمد المدينى "عن رابطة أدباء المغرب" والشاعر أحمد بلحاج آيت وارهام والقاص الروائى أحمد عبد السلام البقالى والكاتبة الرائدة خناثة بنونة... إلخ أما فى ما تعلق بتفعيل تمتيع إتحاد كتاب المغرب بصفة جمعية ذات النفع العام فإن هذا المطلب الذى تقدم به الإتحاد أواسط التسعينات قبل إستوزار المثقف السابق فإنه ظل من سابع المستحيلات التى لانعلم بمصيرها وإلى أى مصير آل بها المآل. تحقيق بعض الأحلام! لكن وبالرغم من العديد من العثرات والمنزلقات التى شابت الحقل الثقافى زمن التغيير فإنه على كل حال قد تم ترسيخ بعض التقاليد والأجندات الوازنة كمواسم سنوية وإبداعية مثل مهرجان المسرح الوطنى بمكناس ومهرجان وليلى بجبل زرهون الذى لا ننكرأنه بالرغم من حداثة سنه صار ينافس بعض المهرجانات العربية ، بالإضافة طبعا إلى مهرجان أحيدوس بعين لوح.. هذا فى حدود ما نعلم، إذ أنه تستحيل علينا فى المشهد الثقافى المغربى الراهن معرفة أين تبدأ وأين تنتهى سلطة وأجندات وزارة الثقافة على مستوى الإنجاز أو الرعاية المباشرة والدعم المعنوى والمادى فى ربوع المملكة؟ والسؤال الأساسى الذى يفرض نفسه بإلحاح وبقوة بعد تعيين الوزيرة ثريا جبران قريتيف هو: إلى أى حد قد تستطيع الوزيرة أن تطهرالحقل الثقافى من الكثير من المسلكيات المشينة التى شابته قبل وبعد تعيين حكومة التغييرمن قبيل المحسوبية والزمالة والحزبية؟ وإلى أى حد ستمتلك الوزيرة القوة الإقتراحية والتصور النفاذ والإستراتيجية الواضحة من أجل الرفع من قيمة الدعم الخاص بالكتاب والتفكير أيضا فى آليات جديدة للرفع من عدد العناوين والإصدارات وتفعيل شراكات حقيقية مع وزارة التربية الوطنية والتعليم العالى وتكوين الأطر ووزارة السياحة والصناعة التقليدية ووزارة الصناعة والتجارة ومختلف القطاعات المرتبطة المنتوج الثقافي؟ وأهم من كل هذا على الوزيرة أن تغمرالعديد من مثقفى الهامش المغبونين، وذلك بالإنصات وعقد لقاءات للإستماع، وأجمل من ذلك فتح رقم خط هاتفى أخضر للإجابة عن كل الأسئلة العالقة حول إنتاج "الكتاب" فيما يتعلق بمشاكل الدعم أو النشرأو التوزيع والإهتمام أيضا بالثقافة الرقمية، حيث أن الكثيرمن المثقفين الورقيين ينسون أن واجهة أخرى للثقافة المغربية مراكبها تبحر على العديد من المواقع الإلكترونية العربية والدولية باتجاه شواطئ الثقافة المغربية.. وأخيرا التفكير فى عقد المؤتمر الوطنى الأول بين أطر وزارة الثقافة ومختلف الإطارات والشركاء والفاعلين فى المجال الثقافى من أجل إصدار كتاب أبيض. وعلى كل حال.. كل عام والثقافة المغربية بألف خير...