رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستُحدد لاحقًا وفق العرض والطلب    بالفيديو: رئيس الجمهورية يزور مطحنة أبة قصور بالدهماني ويتعهد بإصلاحها    قيس سعيد يزور مطحنة أبة قصور بالدهماني ويتعهد بإصلاحها (صور + فيديو)    "نحن نغرق".. سفينة مساعدات متجهة إلى غزة تتعرض لهجوم جوي (فيديو)    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    كيف سيكون طقس الجمعة 2 ماي؟    طقس الجمعة: خلايا رعدية مصحوبة أمطار بهذه المناطق    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    الرابطة الأولى (الجولة 28): صافرتان أجنبيتان لمواجهتي باردو وقابس    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المرأة و الإبداع من خلال رواية: "رحلة في أحراش اللّيل"* للكاتبة حميدة قطب بقلم:عبد الحفيظ خميري
نشر في الفجر نيوز يوم 21 - 07 - 2012

المرأة و الإبداع من خلال رواية: "رحلة في أحراش اللّيل"*
إلى الأخت حميدة قطب وقد فارقتنا إلى الرّفيق الأعلى. واعترافا منّي بقيمة هذه المرأة في المجال الدعوي والنّضالي وخاصّة في المجال الأدبي فإنّني أعيد نشر مقالي حول روايتها" رحلة في أحراش اللّيل". فقد كتب لي أن أسكن غير بعيد من بيت الأخت حميدة وزوجها جرّاح القلب. وقد التقينا في أكثر من مناسبة حول أكثر من موضوع في الأدب والنقد ورحلة الأدب الإسلامي وحول أعمالها الرّوائيّة والقصصيّة والنّقديّة. رحم الله الأديبة والدّاعيّة حميدة قطب وأسكنها فراديس جنّته فهي أهل لذلك...
عبد الحفيظ خميري
"أصغر شيء يسكرني في الخلق فكيف الإنسان سبحانك كل الأشياء رضيت سوى الذل وأن يوضع قلبي في قفص في بيت السلطان"*
أمام أعمال الكثير من الشعراء والروائيين تشعر أن الكتابة تشكل موقفا وقضية وفكرا. وأنها تجسد إبداعا في مستوى المقاومة والموقف، وإبداعا في مستوى تنزيل هذه المقاومة، وتلمس هذا الموقف وتحويلهما إلى أثر فني مشبع بعصارة التجربة الإنسانية، وتجلياتها التي ظلت تتحدى السقوط وتتصدى للانتكاس والتهاوي دون أن يمنعها ذلك من الإنصات العميق والمتواصل والإصغاء الحيوي المتدفق إلى حساسية المخيلة ونبض الذات. وليس ثمة ما يشدّ هذه الأعمال إلى أن تحاكي الواقع محاكاة جامدة، وإن تشبعت بنبضه كما تمثلته خصوصية التجربة. بل إنها كسرت مقولة الالتزام التقليدية بمعناها وشكلها الشائعين. فهذه الأعمال لم تقطع مع جاذبية المشاعر وخصوصيتها والقلق الفردي المتوتر والمعاناة الذاتية وعذاباتها التي تتوحد في كثير من هذه الأعمال بالمعاناة الجماعية. وهنا تشكل هذه الروافد مجتمعة أحد المنابع الحقيقية للخطاب الروائي والأرض الخصبة للولادة التي تروم الاكتمال. وهكذا تستعلي عن هواء الإيديولوجيا وإن كانت تعبر عنه وهذا لا يعني أنها تطهرت تماما من الإرث الإيديولوجي وهذا ما أكّده لويس ألتوسير عندما قام بقراءة أعمال كارل ماركس(1).
إن الرواية شكل فني بالغ التعقيد. وليس هناك قراءة واحدة لهذا التعقيد. والرواية أكثر الأشكال الأدبية استعصاء وأقل امتثالا للقواعد والقيود، لأن هذا الشكل يجمع بين نبضات الواقع وحرية التخيل وخصوبة الحكي. فهي من التنوع والاتساع بحيث لا يمكن أن يكون إدراكها مباشرا أو كليا. إنها شكل يستعصي عن الفرز والتعيين ولكن هذا لا يمنع من المقاربة.
قدرة الخطاب الروائي على المواجهة
قد كنا كتبنا من قبل عن الإبداع وتشكلاته في الرواية العربية. وذلك من خلال تجربة عبد الرحمان منيف الروائية وخاصة أعماله الأخيرة التي في جانبها الأساسي تترجم أنّ الكتابة قضية وموقف وتطرح رأيا متميزا في الإبداع الذي يطرح اغتراب الإنسان العربي اجتماعيا ونفسيا وثقافيا بل وعلى كلّ المستويات. فرواية "شرق المتوسط" أو مجموعة "مدن الملح" أو "الآن ... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى" كانت أبلغ الشهادات ضد السلطة السياسية إدانة وتعرية وتأثيرا. هذه السلطة التي تشوه الإنسان وتسحقه عبر الإعاقة الشاملة حتى يصبح مطلب الحياة حياة الأكل والشرب والنوم وحده ذروة ما يصبو إليه. وهذا من أعمق الدلالات التي اتسمت بها آليات عملها الغابية المتوحشة والمرعبة: "ضحكوا كثيرا ..لمّا رأوا دمائي تسيل كان يضحك من الفرح واللذة ..أمسك أصابعي بقوة ودفعها بين شقي الباب وبدا يغلقه بهدوء لمّا صرخت بصق في وجهي قال بتشفّ:هذه بداية ماذا تقول ..سأجعلك هذه الليلة أعجوبة ...." (2) وتدفق العذاب. وهكذا كرامة الإنسان في شرق المتوسط غدت من أتفه الأشياء وأحقرها !!
إنّ الإنسان العربي خلق فقط ليحافظ على تواصل النسل ومسموح له أن يصرخ مرتين: واحدة عند الولادة والثانية عند شهقة الموت. ومتى تكلم مرّة ثالثة فلكي يمدح السلطان. وخارج هذا الإطار تصبح كلّ كلمة هي الجريمة التي لا يغفرها الحكام في هذه الأقاليم التي نزحف فيها على أنوفنا ورموشنا: "وضعوني في كيس كبير أدخلوه في رأسي وقبل أن يربطوه من أسفل أدخلوا قطتين .. وكلما ضربوا القطط وبدأت تنهشني وحاولت أن أنقلب على جانبي أحس برجل ثقيلة فوق كتفي .على وجهي أحس الأظافر تنغرز في كل ناحية من جسدي"(3).
هكذا تغدو أحد أكبر مهمّات السلطة هي تشويه الإنسان وإفساد نقائه وتقويض تماسكه وهدم إيمانه بنفسه وهنا تنهض الرواية كبنية لغوية تملك درجة عالية من النضج والاستشراف وعمق التحليل. تندفع فيها اللغة متعاظلة متراكبة مشبعة ومنتشرة شاهدة ومؤرخة وهي تجسد التوتر وإيقاع العنف والرعب والبطش الذي يجثم حتى على الهواء الذي يتنفسه العالم الذي تسعى إلى بلورته "ارتبط مفهوم الجنس الروائي بالمتخيل الروائي وهذا المتخيل الروائي يكون فارغ المعنى إن لم يكن تجريدا فنيا لتجربة اجتماعية تنتمي إلى مجتمع له تاريخ وهوية وثقافة"(4).
وكثير من الروايات العربية مثل أعمال عبد المجيد الربيعي وجمال الغيطاني ونجيب الكيلاني وعبد اللطيف اللعبي كانت تشق طريقها نحو الإبداع وفي ثناياها صرخات في مواجهة الرداءة والرتابة والتعفن الذي اتسم به الواقع كما اتسمت به كثير من الأعمال الروائية.
إن جمال الغيطاني مثلا في رواية "الزيني بركات" استطاع أن يخلق أفق انتظار جديد وهو يعيد للغة العربية ذلك الوجود الرائع الذي تحقق في التعبير عن خبايا الوضع العربي السائد فلقد كان التشكيل اللغوي لديه تحديا لإحساس الهزيمة المتكرر ومقولة أن لغتنا العربية فقيرة وقاصرة. فقد قام نص الغيطاني ليقدم خطابا متسقا ومتنوعا وبالغ الكثافة ومفتوحا على أبعاد ومضامين فلسفية وسياسية وحاملا لجمالية منفردة وثراء وخصوصية لغوية. يقول فيصل درّاج في تقديمه لرواية "الزيني بركات": "ينهض الخطاب الداخلي لرواية الغيطاني على تناقض الاستبداد والحرية وهذا التناقض يولد المجالات المتعددة التي ينعكس فيها بأفعال وبلغات مختلفة مما يجعل اللغة مهما كان موضوعها تستجيب للخطاب الداخلي وفي هذه الحدود أعطى الغيطاني نثرا جميلا متألقا في أكثر من مكان تاركا الكتابة عفوية"(5 ).
والرواية تقدم لنا صياغة جمالية عربية خاصة وخالصة، مميزة ومتميزة وهي تعالج موضوع تدمير الإنسان وتهميشه في دولة الاستبداد والقمع الشامل وفي هذه المعالجة الجديدة عن واقع الرواية العربية، ينتج لنا الغيطاني في النهاية خطابا متميزا عن آلية القمع في دولة الاستبداد والتغول. فدولة احتراف القمع انتصبت اختزالا للذات وتحنيطا للعقل مع نفيه. فهي تمارس الاغتراب وتفرضه على الإنسان وتمنع عنه الوعي وتغلق في وجهه أبواب السعادة والاطمئنان وتزرع الخوف في نبضه وملامحه. ودولة القمع في نفيها للعقل وزرعها للخوف وتشكيل وعي الناس تسحق كل القيم الإنسانية وتنسف اللحظة الوجدانية والأخلاقية في حياتنا. وعليه فإن الرواية الجيدة هي التي تعرف كيف تكتب واقعها السياسي والثقافي والاجتماعي كما تغلغل في الذات وكما تمثلته التجربة. وليست الرواية الجيدة تلك التي تصور الواقع تصويرا جامدا لا حياة فيه ولا طرافة ولا إبداع. وهذا ما نلمسه في كثير من الأعمال الروائية التي ارتهنت للواقعية والواقعية الاشتراكية.
القراءة الواعية حياة متجددة للنص الروائي
إن الرواية التي يكتب لها الوجود اللامتناهي هي تلك الرواية المسكونة بهاجس الإبداع والتي تظل تطارده وهي كيان متحقق بين يدي القارئ هذا إذا عرفنا أن كل نص يحتمل في ذاته أكثر من قراءة وإن كل قراءة هي خلق من جديد للنص الروائي وإزاحة لمعانيه إنها احتمال من بين احتمالاته المتعددة فالقارئ وهو يمارس القراءة لا يعكس الصور والمعاني والمفاهيم فقط بل إنه يخلع عليها من نفسه فتتعدد هذه الصور والمعاني والمفاهيم.
إن القراءة تجربة صوفية ذاتية خاصة ولتتحقق القراءة المخصبة لابد من القارئ الجدير بالقراءة لابد أن يتسلح بأدواته لأن النص يشكل في بنيته حقلا منهجيا ودلاليا يتيح للقارئ المتسلح أن يمتحن طريقته في التأويل والمعالجة بغية اجتراح معنى من المعاني أو انبجاس فكر ة من الأفكار. إن كل نص روائي له حياته الخاصة ومنطقه الخاص فهو يشكل كونا من العلامات والإشارات التي تقبل التأويل والتفسير والقراءة مع كل قراءة وهكذا في كل مرة نقرأ فيه ما لم يقرأ من قبل.
رواية حميدة قطب بين الشهادة والاشتهاء
إن النص موضوع اشتهاء كما يقول رولان بارت ولكن هذا الاشتهاء لكي يستوي على سوقه لابد أن لا يتعالى عن الأخلاقي وفي نفس الوقت لا يذوب فيه.وكذلك كانت رواية "رحلة في أحراش الليل" التي كانت تجربة حياة قبل أن تكون تجربة لغة. لغة تجرح وتغري، تقتل وتحيي، بل هي نشاط ذاكرة رائع يعلو عن مجرد استعارات وتشبيهات متكررة، إنها اللغة تتحقق بامتياز وهي تشوه وتبني، تعري الواقع وتتوحد به لتكتبه حتى تستوي كلاّ شاملا. إنها تتوهج لتتقفى تفاصيل الرحلة وهي تكتبها ساعة ساعة، بل دقيقة دقيقة. وإنها لا تتوقف إلا لتعاود سيرها في شكلها الأكثر تصلبا، والأكثر اشتهاء. وهي تنير الأحراش وتتقصى عذابات الليل الطويل لتنحت حمى الصراخ الأخرس لامرأة تجثم عليها جدران أربعة بسقفها الموحش وأرضها المتصلبة المغروسة بالنتوءات.وهي وحيدة مستضعفة في "السجن الحربي"! ذلك الاسم الرهيب الذي تفزع القلوب عند ذكره ؛ يؤتى إليه بالفتيات الصغيرات والنساء ؟! يلقى بهن وسط الجند، البدائيين...
نص حميدة قطب يحكي معاناة عائلة سجن أغلبها (الأخ الأكبر، الأخ الأصغر، الأخت الكبرى وابنها والأخت الصغرى) والأخت الصغرى هي الراوي الذي ينسج لنا تفاصيل الرحلة حيث عاشت أسرتها، يمزقها القلق ورهق العيش والتبعثر من سجن إلى آْخر. ويطلق سراحهم ليعودوا إلى السجن من جديد. ولكن هذه المرة ومن خلال سجنها الانفرادي تصور محنتها. وتروي تفاصيل العذاب الذي عاشته وعاشته العائلة وعاشه ذلك الأخ الأكبر في كبرياء وصمود ينتهي بإعدامه، لأن إرادته الحرّة غير المقيدة بشهوات الدنيا تأبى عليه ألا ينصت إلا لنداء الواجب والرسالة التي هي أفضل وأعظم ما يمتلكه الإنسان. ويبقى على الأخت أن تنحت هذه الشهادة من وحي قهرها وعذاباتها التي عاشتها مستوحدة في زنزانة في وكر مروع لسحق المؤمنين مغروس في قلب الصحراء اسمه السجن الحربي حيث "أجساد الجند تتحرك كالأشباح وامحت من وجوههم الملامح والقسمات فغدو جميعهم رمزا مجرد رمز لبطش كاسر كريه" ومع هؤلاء ترحل الأخت في أحراش وأدغال السجن الحربي مروعة بصور الماضي وصورة أخويها وأختها. تسحقها فجيعة الفقد وهي ذاهلة في صحراء صمتها القاحلة في زمن وحده فرعون هو الذي يفكر ويحكم. وتظل الصور تتواثب بعد لقاء بين الأخت وأخيها كان بعده الإعدام/ الاستشهاد .ذلك الأخ هو السيد قطب وتلك الأخت هي حميدة قطب وهذه روايتها.
إننا نحترق بلذة النص ونحن نسير مع حميدة قطب على هشيم زجاج حارق. وهاهنا تنتقل اللغة من حقل نظريتها لتغرس في حقل سوسيولوجيتها. إنها تنتقل من كونها خطابا خاصا ومجردا لتستعرض التاريخ المظلم والأحمق والمأساوي وهي تتوحد بوطنيتها ونضاليتها. وهنا تدخل المجهول لتكشف المحظور وتعري ظلامية السلطة وتغولها. وهنا يصرخ جورج باتاي: "أنا أكتب لكي لا أكون مجنونا، أنا أكتب لكي لا أخاف".
وهنا تمنح اللغة نفسها، وتتجاوز كونها منطوقا أيديولوجيا لتتحول إلى لذة إنسانية جامحة يصعب احتواءها. وهنا تتحقق صوفية النص وهو يحترق بنورانية من كتبه ويعلو عن التصنيف. وعليه استحال علينا تصنيف نص حميدة قطب أهو سيرة ذاتية، أم هو مجموعة قصصية، أم هو رواية مقسمة إلى فصول تشدها وحدة عضوية وشعورية، أم هو نص ملحمي، أم هو شيء آخر لا يعرف التصنيف، طالما أن الرواية هي ذلك الكلّ المعقد الذي يستعصي على الفرز والتعيين؟.
وكيفما كان مدخلك إلى نص حميدة قطب وأنى سارت بك القراءة بين أحراشه. فأنت من دغل إلى دغل ولا شيء غير الأدغال والوحوش. هو نص المقاومة، هو النص المسكون بالحرية معنى المعاني ومطلب كل كريم. هي الكلّ المؤسس بنورانية السماء وشفافية المؤمن. وبقدر ما تتوغل بنا الكاتبة في ظلمة أحراش الزنزانة بقدر ما نزداد تعلقا بها وقد طوحت بها الأحداث "بكل حيرتها..بكل رغبة الغريق في التشبث بحبل النجاة، استجمعت شجاعتها وألقت سؤالها إلى الحارس ..قالت في ابتسامة تحاول أن تكون ودودة: "في أي أيام الأسبوع نحن اليوم؟"..فوجئ الرجل بالسؤال..أجاب:"الجمعة" ..قالت وهي تضغط على دقات قلبها: "هل أستطيع أن أعرف في أي يوم نحن من الشهر؟"..نظر إليها نظرة مليئة بالحذر.."لماذا تسألين عن ذلك؟" وكأن جهنم على رأسها قلبت: يعتصر قلبها نواح مكتوم..لو تستطيع أن تسجل في ذاكرتها كل لحظة من لحظات هذا الجحيم،..لا شيء غير العذاب الذي يفرش ظله فوق النهار والليل"(6).
إنها محنة و محنة لا يعانيها من البشر إلا العربي، بل لا يعانيها اليوم إلا المسلم في ظل أنظمة تتشح بالفضيلة ظاهريا وفي جوهرها كذب وخديعة وهتك للمقدس ونفي لعقل الإنسان ووجدانه بل ووجوده ومطاردة مستمرة لوعيه. تصف السجينة من خلال كوة زنزانتها صورة مفجعة لواحد من الاخوة تعرفه : "..لكن يا لهول ما رأت..أو هذا هو؟ الإنسان الذي تحفظه ذاكرتها منذ طفولتها البعيدة؟!..هذا الهيكل غائر العينين، ناتئ العظام، وقد حلق شعر رأسه، وأرسلت لحيته وشاربه بلا تهذيب كأنه من سكان الغاب!..كانت حلته الزرقاء الخشنة المرقعة ملتصقا أكثرها بجراح جسده الدامية، ينزعها عنه الجند بقسوة لا يبلغها الوحوش فتخرج غارقة بالدماء واللحم المتهرئ! أما قدماه ويداه فكانت كلها ملفوفة بالرباطات تغرقها بقع الصديد والدم؛ رأته يتحامل على نفسه وتنطق ملامحه بألم غائر ليهبط الدرج القليل فينهال عليه السوط يتبعه صوت الوحش بالسباب الفاحش ليسرع الخطى..ليجري..ثم ينهال السوط من جديد من اليد الفاجرة فوق الجروح!..لقد أنّ له قلبها أنينا موجعا ..وانهمرت من عينيها دموع غزيرة، وباتت ليلتها يغمر روحها هم ثقيل..ليلتها ذهبوا به إلى مجازر التحقيق من جديد..لم تكن تظن وقتذاك أنها هي أيضا سوف تساق إلى هذا الهول الكبير!"(7).
وفي مثل هذا المناخ تشكل النص وعيا بهذا التناقض، ليتشكل بعد سنوات طويلة خطابا روائيا. نص يواجه نفسه ووجوده. ويحكي فجيعته في زمن فقدت فيه معايير العدالة والعقل والشريعة حرمتها ومعناها، طالما أن المرجع الأعلى هو الشخص القائم والزعيم الإله. صوت مسكون بفجائع الأمة، تتعدد فيه أصوات أخرى تتجاوز العالم العربي والإسلامي لتمتد إلى أصقاع كلّ دولة لا تحترم مواطنيها. لغة وأحداث وسرد ورحلة اختلط فيه الوجداني بالمأساوي لتقول العجائبي الذي جسّد اهتراء الواقع ورعبه وكشف زيفه وهو يلتقط لنا فضاء الزنزانة في كل تقرحاته وتعفنه. والنص من الهول يجيء ليعود إليه. يدور دورته ليقتحم واقع السجون والمعتقلات شاهدا وشهيدا وتلك "خصوصية الرواية العربية مرتبطة بقدرتها على أن توجد داخل التاريخ وجودا إشكاليا، متفاعلا، وعلى أن تعتمد التجربة وقد تحولت إلى تاريخ لحل مشكلاتها"(8).
لقد كانت السجينة صوتا وجدانيا وبوحا جارحا يفتح كلوم الذات وآلامها بقصد تقريب الواقع ونقله وتشخيصه جماليا وفنيا لينشر غسيل الأنظمة المجرمة في حق مواطنيها. تتعالى الأسئلة من أجل أن تبلغ مداها ويحتدم أوار المناجاة الداخلية المشتعلة، اشتعالها بالداخل الإنساني في زمن تحول فيه الطبيب إلى وحش مثل غيره من الوحوش التي تملأ أحراش السجن الحربي "لقد وقعت كلمات الطبيب على قلبها كالصاعقة..كانت تحتج إليه على وجودها في هذا المكان؛ فلقد ظنت أنها وجدت أخيرا إنسانا وسط أدغال الوحوش، تفضي إليه بفزعها وعذاباتها وحرجها القاتل الذي تعيشه وسط الجند..ولكن كلماته فاجأتها، ثقيلة ساحقة؛.. أنت هنا رهن التحقيق ..حتى تثبت براءتك... "(9). وهكذا نجد أن السجن قد مسخ كل مكوناته وشوه الجلاد والضحية في نفس الوقت بل لم يسلم من هذا المسخ حتى الطبيب الذي هو رمز الأمان والخلاص والعافية.
وإن كان ذلك كذلك. فإن كل نص يقترح فضاءه ليؤسسه. كما يقترح إيقاع لغته ليترجم إيقاع الشخصية وهي تفكر، وهي تذرع الغرفة، وهي تخاطب نفسها. وهكذا نهضت جمل النص مكثفة صاخبة متوترة "بصرها التائه في الأفق الذي تناثرت فيه حمرة الشفق يعود..ينغرز في الساقين ..في المشية العسكرية الرتيبة تقتلع الأرض اقتلاعا تحت القدمين..تتبعهما في سرعة لاهثة لاهفة، ملتاعة حزينة كشاة تساق إلى مذبحها" (10).
لغة محملة بالأفعال والأوامر والنواهي، ومرتبطة بالتعبير عن حالات الحلم، والأوهام والهلوسات، والهذيان وتشوش التفكير، واضطراب السلوك. لغة ذاتية إجترارية تشبه الهلوسة أو الهذيان يتداخل فيها الواقع والحلم والماضي مع الحاضر. لغة تعبر عن التقوقع والانعزال. لغة اعتمدت على المناجاة والحوار الذي عادة ما يتم مع طرف آخر لا يقوم بالردّ. فهي تؤكد حدة شعور الشخصية بالانفصال والعزلة "من هي في هذه الرحلة قارسة الصقيع في قلب الصيف؟!..من هي التي تخوض في النيران والدماء تحمل فوق كتفيها حزن أعمار البشر..من هذه التي تسير..خطوة إلى الموت وخطوة إلى الوجود..من هذه التي تسرع الخطى ..إلى المجهول.."(11).
إنها لغة تشير إلى تلك الرغبة الجامحة الغلابة التي تضطرم في أعماقها ، وتدفعها نحو محاولة الاتصال والتواصل والمواصلة والائتلاف. فكانت زقزقة العصافير مبعث بشر لأنها تربطها بالخارج. وكان دخول القطة عليها قد ملأ قلبها بالأنس وقد ملأ المكان "لقد اهتز قلبها حتى أعماقه وهي تسمع النداء..صوت القطة يموء..خيط حياة ينادي الأحياء!..تدفقت في حناياها أكداس من الحنو والحب والرحمة؛ نادتها فردت عليها النداء"(12)، ولكن من وحوش البشر لم تسمع أي نداء وهي تصرخ وتستغيث ورائحة الغطاء تكتم أنفاسها.
وهكذا كان نص حميدة قطب. نص غدا الواقع فيه هو الذي يمد الخيال فيما كانت الأحداث تتقدم في زمن السجون التي تبتلع في حياة الشباب كل ومضة وكل إشراقة حياة. وهاهنا يتشكل الالتزام من حيث هو وعي بخصوصية التجربة، قبل أن يكون قيدا تفرضه مدرسة أدبية أو نظرية معينة للخطاب الروائي. ولئن سجلت لنا أنيسة في رواية "شرق المتوسط" محنة أخيها رجب إسماعيل الذي دفع ثمن نضاله غاليا بعد أن أراد أن يكفر عن سقوطه في المرة الأولى بعد عذاب طويل قضاه في السجون. فيما كانت رواية "شرق المتوسط" في بنائها وهي تعتمد على الذاكرة لتقدم تشويه السلطة للإنسان في بلاد شرق المتوسط وإن كانت أحداثها مستوحاة من الواقع فإنها تبقى عملا تخيليا. أما حميدة قطب فقد نسجت نصها الروائي من لهيب تجربتها وحمى معاناتها، ولهذا كان عملها إدانة جمالية وواقعية، شاهدة وشهيدة على العبث الحيواني بجسد الإنسان "..كالتائهة تحدق في الوجه الحبيب..الجديد..لقد حفر سمته في أعماق القلب"(13).
وعلى طول الرواية كانت قراءتنا لها مشاركة لبطلتها، حيث تتقد مشاعرنا غاضبة ونحن نتابع تصعيد البطلة لعذابها وصمودها، لانكسار جسدها وإشراقة روحها وهي تستروح معنى الحياة التي تخضبت بدماء الشهيد وهو يرفض أن يطلب حياته من جلاده ولم يسقط كما سقط رجب إسماعيل بطل "شرق المتوسط". إ ن حميدة قطب استطاعت بعد سنوات من معايشة التجربة القاسية والمروعة أن تقدم لنا "ضربا من الإدانة الجمالية للعبث الحيواني بجسد الإنسان والتعامل معه دون تقدير ودون رحمة مما أثار لدى القارئ إحساسا بالغضب الجمالي الناتج عن الصدمة التي يحدثها ما هو قبيح"(14)، كمناظر القتل والتعذيب والسباب وسبّ الجلالة والاستخفاف بالمقدسات وعمليات الترويع والسخرية والتعدي على حرمة الإنسان وكرامته وإعطائه طعاما تعافه الكلاب. كلّ هذا قدمته لنا الكاتبة في بنية متسقة ومتكاملة ودالة. وعلى وقع الشهادة والمقاومة تنتهي الرواية التي تعثرت في بعض من أحراشها لأنها سقطت في المباشرة والوعظ وهذا ما سنتناوله إن شاء الله متى سنحت لنا الفرصة في مقال آخر.
------------------------
الهوامش
* حميدة قطب، رحلة في أحراش الليل، دار الشروق، الطبعة الأولى 1998
* سلام يوسف، القهر والصمود في شعر مظفر النواب، مجلة ألف: مجلة البلاغة المقارنة، عدد 13 ، 1994. ص 95
1 علي حرب، قراءة ما لم يقرأ ، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 60 61 . ص 45 .
2 3 كمال أبو ديب ، لعنة شرق المتوسط ! مجلة الناقد، العدد 21. مارس 1990 . ص 65 ، ص66 .
4 5 جمال الغيطاني، الزيني بركات، تقديم فيصل دراج، دار الجنوب للنشر تونس،1991 . ص 7 ، ص17
6 حميدة قطب ، رحلة في أحراش الليل ، ص 24 .
7 حميدة قطب ، ص 42 43 .
8 جمال الغيطاني ، الزيني بركات ، تقديم فيصل دراج ، دار الجنوب للنشر تونس، 1991 .
9 حميدة قطب ، ص 29 .
10 حميدة قطب ، ص
11 حميدة قطب ، ص
12 حميدة قطب ، ص 87 .
13 حميدة قطب ، ص 116 .
14 د.علي نجيب إبراهيم، ملامح مقولة القبح الفني في رواية شرق المتوسط للكاتب عبد الرحمان منيف. مجلة النافذة ، العددان 11 . 12. 1992 .
ملاحظة: كتبت هذا المقال في سنة 2002 وصدر بعدها في مجلة " رؤى".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.